متعة المغامرة في (بئر برهوت)

ثقافة 2021/07/31
...

  زهير الجبوري 
 
إنَّ الأشتغال في مساحة القص السردي الحديث المتمثل بالقصة القصيرة جداً ، إنما يفتح باباً في عملية التلقي وفي التحولات المكثفة التي تنطوي عليها بنائية القص وبعده الدلالي في صياغة معنى مكتمل الأبعاد، وهي لعبة سردية أخذت من تفاصيل ما يسمى بـ(إشكالية الكتابة)، وهي بلا شك (إعادة تركيب نظام اللّغة السردية)، بل وتعتمد على ابتكارات اختزالية بحسب كل واحد مشتغل عليها، ولعل (جابر محمد جابر) واحد من مشتغلي هذا الّلون في مجموعته الجديدة (بئر برهوت /2021)، وفي تجارب سابقة له ايضا، قدم خلالها اشتغالا متفرداً إضافة الى تجاربه الشعرية..
وبغض النظر عن إجناسية الكتابة السردية في القصة القصيرة عند جابر محمد جابر ، فان المثير في تناول نوع القص يدخل في تفاصيل فنية دقيقة، حيث الأمساك بثيمات اساسية يمكن جعلها جوهر الموضوع، في (العنوان/ والمضمون/ وطريقة الكتابة)، وهو ايضا (فضاء سردي جديد ، لم تتجذر تقانات كتابته بعد، ولا حتى تداوليته في السرديات القارة كالقصة والرواية) بحسب - علي الفواز - الأمر الذي يجعلنا في اشكالية كتابته وتلقيه معاً سواء عند القاص (جابر) أو عند غيره، وحين نغور بتفاصيل قراءتنا للقصص، نمسك بموضوعات متنوعة اشتغل عليها السارد، تلك التي أمسكنا بطروحاتها عند الناقد (جميل حمداوي) حين أشار الى أركانها التي تتعلق بـ (الجانب البصري، أو الطوبوغرافي، أو الجانب التركيبي، أو الجانب البلاغي، أو جانب القراءة والتقبل، أو الجانب السردي، أو الجانب المعماري)، وهذه المكونات أسست وحدة الموضوع في نص مكتوب، لذا جاءت جميع القصص بارهاصات مستعارة من بنية الكتابة ذاتها وعمقها المضموني المكثف، فما بين الحس الذاتي وغنائية الجملة السردية، وما بين حالات الوصف للمشاهد المرسومة، وما بين الانعكاسات النفسية ، تكتب النصوص بهذه الأشكال، نقرأ قصص المجموعة وما تحمله من استحداثات سردية محبكة، ففي قصة (لص) تظهر ملامح الكتابة القصصية بلغة تعبيرية مجردة للطالب الذي (يتعمّد إخفاء بعض الأحرف من الكلمات (يبتلعها)، حاول تنبيهه أكثر من مرة، الاّ أنَّ الطالب كان يتمادى كثيراً) ص12 وكانت لعبة الأحرف في كلمة (حرب) دلالة واضحة في ترتيب المعاني بشكلٍ مختلف من خلال حذف حرف معين ليعطي معنى مختلفاً عند إعادته ثانية، وكذا الحال في قصة (خيبة)، حيث يظهر (الحب) بوصفه خيبة أمل للعلاقة غير المتكافئة بين (التي تقود الى شاطئ الأمان) ص21، وكأنَّ لعبة الشفرة لمسألة كبيرة تصبح بالشكل الذي ينطوي عليه النص باطاره السردي المفعم بالمفارقة، وبفنية غاية الدقة في صياغة المعنى واختصاره. وفي قصص (الشهداء يغادرون أحيانا) و(الواهمة) و(سرى) و(معاً الى الجحيم) ، ثمّة مقاربات سردية اجترحتها طريقة كتابة النصوص لموضوعة الموت والرحيل والنهايات بدلالاتها المباشرة او بمفارقات الّلغة السردية ذاتها، ولعل سمة (الادهاش) التي تعد واحدة من سمات هذا اللون من الكتابة السردية كانت واضحة، وحين تفي الغرض فإن هدف القصة قد اكتمل، حتى حين تتمتع بخيوط (شعرية مسرودة)، فهو أمر طبيعي لأنَّ (جابر محمد جابر) شاعر له تجربته المعروفة.
أما في قصص (صورة الشهيد) و(سؤال وجواب) و(بئر برهوت) و(رصاصة قناص لعين)، تظهر ملامح الكتابة الرمزية على قدر كبير في اطار المضمون، ربما تعبر عن موقف ذاتي ونفسي وسياسي، غير انها تمتعت بمفارقة واضحة وبخاتمة مفتوحة، لكن في قصة (رجل يسير نحو الشمس)، تظهر طريقة كتابة النص بما يسمى بـ(صدمة القارئ) وهي واحدة من ميزات القصة القصيرة جداً، غير انَّ الصدمة متأطرة بالمضمون وبقراءة المفردات التي تحمل شفرات قصدية لدى القاص ذاته ، فحين نقرأ (سمحا..، فو.. تو..، كصد..، دكا..، سال..، كو..، دل..، ب..، كــر..،) هي عبارات تطلق على رجل (مضى دون أن يلتفت الى الوراء) ص48. تمنيت لو أن هذه الأحرف والعبارات يشار اليها بهامش، بوصفها اصواتا تطلق على رجل له وضع معين، ليتسنى للقارئ معرفة أبعاد هذه القصة، خاصة القارئ الذي لم تمر على أذنيه هكذا اصوات، واعني القارئ العام في مناطق من بلدان الوطن العربي.
(بئر برهوت)، مجموعة قصصية كانت مكملة لتجربة سابقة للقاص، ومنذ سنوات وهو يعمل على مشروعه هذا، لأنه باختصار مشروع يثير شهية كل مبدع في التواصل والكتابة فيه لما يمتمع من سمات حديثة وتجريبية واضحة، او بالاحرى لأنه لون سردي/ كتابي جديد، الأمر الذي جعل الخوض فيه يمتع بحذر الكتابة.