الفنان عاصم عبد الأمير.. صغير بيكاسو في بدن وحش

ثقافة 2021/07/31
...

 محسن الشمري 
 
 تعني الطفولة في أعمال عاصم عبد الأمير (تولد الديوانية/ الدغارة 1954) فضاءات من اللعب والتمادي، ومقاطع من الزمن السائل تبيض وتفقس في الدمى، وفي الطيارات الورقية الملونة المنتصبة فوق الخيوط الحرة، وفي الشغب والعراك المختوم باللا معنى. وتعني ايضاً عنده تلك الروحية البيضاء التي تحاول مخيلة تقمصها والاقامة في بنيانها، بلا خطايا او ذنوب ومن دون أن تأبه بالعصافير والاقمار والأمطار وتعاقب الطقوس وعصف التيارات المناهضة للعفوية والسجايا الباردة.
يدرك الفنان (الأمير) أن اللعب عند الصغار تسلية ليس إلا، بينما هو عند الكبار تعبير نفسي عن جيشان داخلي، قد يكون وسيلة للهرب من كل ما هو عقلاني ومأساوي يخل بالمنظومة التحكمية التي يقودها العقل والمنطق، وهذا ما يجعل المعادلة صعبة إلى الدرجة التي تضع الفنان امام تساؤلات حرجة تحتاج الى اجوبة صريحة وتوضيحات مقنعة، أهم هذه التساؤلات هو:
كيف يمكن لمعلم الصبية أن يتقمص شخصية تلميذه؟
وكيف (للأمير) ان ينتزع معالم القصدية من سلوك اليافعين والتخلي عن زمان البلوغ المتخم بالتجارب والحوادث؟.
هذان السؤالان جوابهما في الدراسات النفسية معروفة بالنفي. اذ لا يتطابق مفهومهما بحكمهما فراق الوقت. بينما يجيز (الأمير) لنفسه ما لا يجوز لغيره. ويصر على أن يكون جوابهما الشافي والمقنع من داخل مؤسسته التجريبية الفنية والأخلاقية، ولديه الوقت والادوات لحرق ومحو ذاكرة من حضيرة شاشته الطفولية، وتحقيق الانطلاقية الغرائزية والعفوية وشطب وسلخ ما دونته القصرية والتعقلن فوق الصفيحة البيضاء الباردة اثناء مراحل النمو والتكوين. 
يقول بيكاسو «كل طفل فنان، المشكلة كيف تظل فناناً عندما تكبر» وحسب رؤى بيكاسو هنا (على الطفل ان لا يكبر لكي يبقى فناناً)، مفهوم دراماتيكي يفرض على صغير بيكاسو (عاصم الأمير) تقزيم نفسه وضغطها إلى الدرجة التي تمكننا من خلالها أن نراه طفلاً غريرا في جسد وحش كبير، وحش مجرب وفاعل ومارد، وكل ما في الامر من غرابة أن عليه جدولة واجباته في الانفتاح الغض لبصريات الشكلية على العناصر والاشكال المعقدة واعادة تركيبها وترتيبها. ولكن هذه المرة بعين صغير بيكاسو والاصغاء والاستجابة إلى ما تمليه عليه والاقامة الجديدة في موسم الطفولة من فصول العمر التي تستمد رؤاها التخيلية من الواقع المجرد، اما قواه التأثرية فقد يجري استلالها من البلاهة والغباوة الطفولية ومن اللاتخطيط والتغاضي عن الجدية المفرطة والانصراف الكلي نحو الفسحة التي يوشحها اللهو البريء بالفطرة الربانية.  
بالرغم من كون فناننا (الأمير) مغرماً بالموسيقى وليس بالاسم وحده على حد قوله «لو لم اكن رساماً لكنت موسيقياً»، إلا أنه لا يرغب في سماع صوت بكاء الأطفال ولن يذهب إلى ما ذهب اليه (ادورد مونك) عندما جسد الفظاعة وصفع الطفولة بالهواجس المرعبة، في لوحته الشهيرة (الأم الميتة) فقد عمد (الأمير) إلى اشباع لوحته بعناصر اللعب المستمر ومرح المهرجين وهوس الخطوط الحرة والألوان الطينية والتحفظية، واتخذ من كل ذلك دليلاً ومؤشراً لاقتفاء اثر الطفولة في الأزقة المغلقة وفي الباحات المفتوحة وفي الاحلام السعيدة وقت المنام، وكللها بتعبيرات اسلوبية لا تقف عند حدود معينة من الاتجاهات الفنية، بل تنوعت خطاباته الشكلية بين الرمزية والتعبيرية والتبسيط والتجريد وما تفرضه الضرورات الانية وقت الرسم.   
يشكل عاصم عبد الأمير لوحته من داخل باحة الطفل العراقي وتمتاز بالحفر العميق بخصوصياتها البيئية الموشحة بأزيائها الشعبية وادواتها الفقيرة التي لا تبلي أدنى طلب لتحقيق حلم الطفولة. كل لوحة بمثابة احتجاج وتمرد وراؤه رسام عراقي سومري يصغي جيدا لما تقوله وما تدلي به البيئة الفوقية والانساق الفطرية للطفولة، ويمنى الصبية بسهولة القفز فوق الحبال، ونصب الاراجيح الى جوار الاكواخ والبيوتات الدارسة التي تشتبك فوق سطوحها المتدنية خيوط الطيارات الورقية بأسلاك اعمدة الكهرباء الخبيثة أو مع سعف النخيل المزعج، يصاحب هذا العراك العفوي الحر دائما وعلى مقربة من عناصره البنائية التكوينية واللونية (راعي الاغنام) يعزف على عيدان القصب أنشودة الانفصال عن عالم لا تعنيه فيه جزئياته ولا كلياته، سوى رغبته بالبقاء طفلاً تحت سن الوعي وقبل أن يبلغ الحلم.
إن من بعض اوجه الاعتبار عند الفنان (الأمير) التصاق الطفولة بالجمال وبالشجاعة، وإن الرسامين الكبار يخافون، والفرشاة الادائية لا تفعل الكثير أمام خجل ولعثمة اليافعين، بينما لا يهاب الصغار هذا التملك وليس لديهم أدنى احساس او شعور بالعزلة والتردد، ومن هذا الهوس الفكري والعمق الواهم اخرج عاصم عبد الامير رؤاه الشكلية والتشكيلية ومن منظار تشاركي تبادلي بين الحاجة إلى زحزحة الوعي القصدي والتخطيط القبلي، وبين شيوع الفطرة والبراءة على الطابع العام لشخوصه التنكرية.