خطاب سياسي سائل

آراء 2021/07/31
...

 علي الخفاجي
أشار عالم الاجتماع البولندي (زيجمونت باومان) الذي وصف في كتابه (المراقبة السائلة) ما يعيشه العالم اليوم من حداثة مصطنعة اطلق عليها مصطلح الحداثة السائلة؛ وهي الحداثة المزيفة، التي لا تمت للواقع الفطري بصلة، وهي استعارة أكثر دقة في التعبير عن صعوبة الإمساك بالأشياء وصعوبة التحكم فيها لقدرتها الفائقة على التلون والتغير والتشكل، وهي نقيض الصلابة القيمية التي غيبت العقل واتجهت نحو إشباع الرغبات الاستهلاكية المتعددة.
 
صفتـا الخير والشر منذ بدء الخليقة متلازمتان، مترابطتان كما الليل والنهار، والحب والكراهية، والى ما شابه من ثنائيات متماثلة، وفطرة الإنسان منذ نشأته دائماً ما تكون فطرة سليمة، لكن بمرور الوقت وحسب طبيعته ونتيجة لتجاربه تجد من يتلون بألوان عديدة وينشر قبحه الفاضي نتيجة عدم الاتزان، والبيئة المحيطة به وعوامل عديدة، إذا ما اجتمعت في شخص ما ستجده أمام منحدر خطير.
جمهورية الخوف التي تأسست منذ عقود، أسـست بشكلٍ أو بآخر حالة الميوعة المجتمعية التي أشار اليها (باومان)، فحولت صلابة الفرد الفطرية التي نشأ عليها الى حداثة سائلة نتيجة الخوف والاضطهاد وعدم القدرة على البوح بآرائه بشيء من الحرية، وبالتالي أصبح الفرد وفق هذه الحداثة يفقد الإحساس بالذنب إزاء تعديه على منظومة القيم وأهم ما يعنيه هو نجاحه في كسب الأشياء حتى وإن كان نجاحاً على حساب حقوق الغير ومهما كانت النتائج، فتبدلت القيم المجتمعية وتفككت الروابط الاجتماعية نتيجة التلاعب الممنهج بمقدرات الناس، ونتيجة لهذا الخوف واللامبالاة أصبحت عبارة (لكل حادث حديث) الاختزال المناسب لحالة الترقب وحالة اللا يقين، وتستعمل هذه العبارة للدلالة على حالة اليأس ومجهولية الحاضر، وحتى الذي يستعمل هذه العبارة لا يعلم ما ستؤول إليه الأشياء في المستقبل، المهم هي الحالة الآنية، إن صحت تسميتها كيف ستكون بعيداً عن التأمل المستقبلي.
الخطاب السياسي اليوم ونتيجة لتراكمات الماضي بدأ يستعمل عبارة (لكل حادث حديث) ويؤمن بها وبشكل مكثف، ونتيجة لمتغيرات الأوضاع بدت للشخص المهتم بالشأن السياسي هذه العبارة، التي شاع استخدامها كثيراً وكأنها مناورة سياسية أو هـروب من التورط، وهي تعني غياب الرؤية وغياب المسؤولية التي قد تصل إلى نوع من اللامبالاة، ونتيجة للسياسات الخاطئة والتي بدورها قضمت كمية كبيرة من الحرية، أصبحت الهوة كبيرة بين المواطن والسياسي، فأمسى المواطن مترددا وغير مطمئن نتيجة الاحباط الذي ينتابه واليأس المتكرر.
ورغم رونقه الجميل، وبهرجاته الملمعة، وصلابته المتلازمة، 
الخطاب السياسي السائد يحمل بين طياته حالة من السيولة العميقة، التي لا حدود لها نتيجة الوعود الكثيرة التي سبق وأن اطلقت مراراً وتكراراً والتي بدورها 
ولدت للناس حالة من الغموض واللا يقين، والتي نتأمل أن تتحول الى منجزات صلبة مختلفة واضحة المعالم.