موت الرواية

ثقافة 2021/08/01
...

  مالك مسلماوي
قد يكون العنوان (موت الرواية) مستفزا في زمن اخذت الرواية فرصتها الواسعة انتاجا وقراءة، حتى أننا سمعنا ممن رأى فيها البقاء، وحكم على بقية الاجناس بالموت البطيء و بخاصة الشعر بعده القطب المقابل للسرد.. ومنذ أن قسم مؤرخو الادب  فنون القول بعامة الى فنون شعرية وفنون نثرية، ومع كون الشعر فن العرب الاول، نجد أن البعض فضل النثر على الشعر قديما بانحياز معلن الى النص المقدس الذي ورد فيه ارتيابا من الشعر وغاياته وضم في جنباته قصا طاغيا. 
 
ويأتي الانحياز الآن على أسس فنية خالصة، فالسرد يستند الى حركة الزمن والاشتغال المباشر على ما جرى ويجري على أرض الواقع مما يشكل اهمية ما لدى المتلقي.. المتلقي المسترخي الباحث عن المتعة والاجابات الجاهزة والمؤيدة بالبراهين والحقائق الملموسة التي هو على تماس مباشر او غير مباشر معها.
وكما يبدو هناك ملامح صراع خفي بين القطبين (شعر/ نثر) تميل فيه الكفة لصالح الشعر منذ القدم لقربه من قلوب الناس ولأمور أخرى تتعلق بملامسة مشاعرهم وعواطفهم بعيدا عن الضغوط اليومية التي يواجهها الانسان.. ويبدو ايضا ولضخامة المنجز الشعري ووقوعه في التكرار والاسفاف والتناسخ وصل الحال الى درجة الاشباع والملل لدى المتلقي 
المعاصر الباحث عن نفسه في الجنس الآخر، الجنس القائم على (الحكي)، والحكي فن قديم وشائع في الاوساط الثقافية وخارجها، أعني في الاوساط الاجتماعية المختلفة. وهو فن شعبي قبل ان يكون فنا او جنسا أدبيا 
معروفا.
لقد حققت الرواية قديما وحديثا انتشارا واسعا، وأمست حديث القراء على اختلاف مستوياتهم، والرواية المعاصرة كشفت عن تجارب واساليب جديدة وشخصت العوامل الفاعلة في الحياة الاجتماعية وطرحت كثيرا من الأفكار والهموم الانسانية المعاصرة، الأمر الذي جعلها تحتل المساحة الأوسع في التداول الثقافي وتجتذب المزيد من القراء والمتابعات النقدية واقامة المنافسات والمسابقات على المستوى المحلي  والعالمي.
 بعد كل هذا وغيره يكون الحديث عن موت الرواية ضرب من الخبل.. كل المعطيات الآن لصالح هذا الفن العظيم الذي بلغ فيه المؤلفون أعلى مراتب الانجاز، وربما هو الزمن الأول الذي تفوق فيه القص والرواية بشكل خاص على سائر الاجناس، واصبحت الجنس الجامع للشعر والسرد والسينما والمسرح وسواها.. فلماذا تموت الرواية؟ وهل بين ايدينا ما يدعم هذا التوقع؟. 
من وجهة نظر خاصة تستحق الرواية هذا المجد لكني لا أرى ان الأمر سيستمر الى البعيد، والسبب في مقاربة حركة الزمن والتشظي الذي يعيشه الإنسان وتعدد اهتماماته ومسؤولياته.. الانسان الآن وغدا يصرف كثيرا من الوقت لقراءة رواية واحدة، الأمر الذي يؤثر في انشغالاته الحياتية الأخرى، كل الناس قبل عالم (الانترنت)، وقبل هذا التشظي كان قادرا على توفير الوقت لاهتماماته القرائية.. كنا نقرأ رواية او روايتين في الشهر، أما الآن فالمسألة تختلف، اذا كان تحت يدك عشرون رواية تحتاج منك عشرين شهرا افتراضا، وخلال هذه المدة تصدر اربعين أخرى وهكذا..، إذن سيظل الكثير من الانتاج كاسدا، وهنا تظهر اهمية الزمن لدى الجمهور المتلقي وبخاصة الجمهور النخبوي المعول عليه.. وكذا النقد الذي يجد نفسه في مأزق الوصول الى كل شيء.
في زمن السرعة الفائقة سيلجأ القارئ الى موازنة بين ما يختار والفرصة المتاحة 
في إشباع نهمه القرائي.. لذا سيلجأ الى القصة او القصة القصيرة جدا او العودة الى القصيدة التي لا تحتاج سوى دقائق معدودات في 
البيت او المقهى او وسائط النقل.. وستظل الرواية مهما كانت اهميتها تنتظر حظها على الرف.. في الشعر يتضايق بعض القراء من 
قصيدة طويلة فكيف برواية من مئات الصفحات؟.
المسألة اذا في ما تحتاجه الرواية من وقت، وقد بات الوقت وكيفية استغلاله يشكل اهتمام الانسان المعاصر، ومن جهة ثانية ما تتطلبه القراءة من جهد كبير يفوق كثيرا التلقي عن طريق المشاهدة والاصغاء، وربما تكون مشاهدة فيلم او عرض مسرحي لا يستهلك سوى سويعات اكثر جدوى في حسابات الكثير من المتلقين. فالسرد لم ينحصر في الفن القصصي او الروائي إذ هو عنصر بنائي في مختلفة الفنون حتى لا يكاد يخلو أي فن منه، كما انه يشكل دعامة بارزة في بناء النص الشعري قديما وحديثا، إلا أنه بات يشكل حضورا أكبر في النص الشعري المعاصر المتجه بشكل نسبي الى ان يكون نصا خاطفا.. وبالمقابل وجدنا من اهم عوامل نجاح الرواية الحديثة اعتمادها على اللغة الشعرية. 
 وأزعم أن الرواية ستترك الساحة في يوم ما إلى ابنتها (القصة القصيرة) وبشكل اكثر توكيدا الى حفيدتها (القصة القصيرة جدا) المنسجمة مع نبض الحياة المتسارع مع تقدم الزمن. ثم ان الفن الروائي المعاصر جرى عليه ما جرى على الشعر من غزارة الانتاج وكثرة الكتاب وإغراق السوق بكم هائل من الروايات حتى بات القارئ حائرا ماذا يقرأ ولمن؟، ومن اجل ان يجيب عن السؤال يحتاج وقتا ليس بالقصير ليميز بين ما يستحق صرف الوقت وما لا يستحق، ومن المؤكد ان من ينقذ سوق الرواية من الكساد هم الروائيون ذائعو الصيت.. وربما من بين عشر روايات قرأها متابع خلال عام أعجب باثنتين او ثلاث وخسر الوقت في القراءات الاخرى. فكثير من القراء يمنى بالخيبة بعد الاجهاز على ما اختاره، وربما احبط وماتت لديه الرغبة وفقد شهية القراءة.