صورة البطل في الفن وعلم النفس

ثقافة 2021/08/01
...

  صلاح حسن الموسوي                   
 
في استفتاء أجرته مجلة عالمية نهاية القرن الماضي عن أهم الأفلام السينمائية، أعرب الرئيس الأميركي الأسبق الديمقراطي بيلي كلينتون عن إعجابه الشديد بفيلم (ظهيرة مشتعلة) وهو فيلم اميركي كاوبوي أنتج عام 1952، أدى دور البطولة فيه غاري كوبر وغريس كيلي، وكانت قصة الفيلم عن عصابة خطيرة تريد اقتحام مدينة صغيرة، إذ لم تنفع جهود ودعوات العمدة (كوبر) في استجابة سكان البلدة المتخاذلين لمواجهة هذه العصابة، ومن ثم يضطر البطل (كوبر) للتصدي لهذه العصابة والقضاء عليها بمساعدة خطيبته (كيلي)، وهذا الفيلم تحول الى أيقونة لدى أكثر من رئيس اميركي للتعبير عن عزلته وغربته في مواجهة الأخطار عندما تعزف أغلبية الشعب عن نصرته.
وفي عام 1975 اكتسح شباك التذاكر في الولايات المتحدة فيلم (شامبو) وبطله كان (مصفف شعر نسائي)، إذ ناهزت مردودات الفيلم (50) مليون دولار قياسا بميزانيته المرصودة (9) ملايين دولار، وهنا تتجلى النقلة في أذواق الجمهور للتماهي مع  نوعية البطل، وباعتبار السينما هي فن تسجيل الواقع بأقل قدر من التشويه بحسب تعريف المخرج الروسي أزيزنشتاين، فإن فيلم (ظهيرة مشتعلة) كان يتماهى مع روح القوة الجديدة للولايات المتحدة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والصاعدة لتتبوأ مركز القوة الأعظم في العالم، بالمقابل عبر فيلم (شامبو) عن روح دولة الرفاه العالمي التي وسمت حقبة السبعينات الماضية وناغم الميل الشعبي للأنماط العديدة والمستجدة من السلوك الاستهلاكي للشعب الأميركي ومعظم شعوب العالم.                      
قبل عصر التدوين وبعده، لم تفارق صورة البطل أو المنقذ مخيلة الشعوب وبما يتماشى مع معتقدات وطموحات كل شعب، والسينما كفن سابع لم يحد عن حركة الفنون التي سبقته في تخليد البطل واجتراح الخارقات له واجتراح الملاحم في تمجيد انجازاته وفتوحاته كما في ملحمة كلكامش والأوديسا والألياذة، وقد انتقد الكاتب الأسكتلندي توماس كارليل (1795 - 1881) في كتابه الشهير (الأبطال) القول بأن البطل ابن عصره، إذ كتب (إنهم يقولون إن البطل ابن عصره، وينسبون كل شيء إلى عصره، ولكن قد عرفت عصورا تصرخ البشرية عاليا تنادي مطالبة بالعظماء ولكنها تفتقدهم: أين البطل؟ انه ليس هناك.. لم تبعث به العناية الإلهية»!؟)، وكتاب الأبطال وعبادتهم دراسة أدبية وتاريخية للبطولة، اختار كارليل لعرضها وتحليلها ما اعتبره أرقى النماذج الإنسانية: البطل معبوداً في شخص أودين (الإله) الإسكندينافي الأسطوري، والبطل نبياً في شخص النبي محمد، والبطل شاعراً في شخص دانتي أو شكسبير، والبطل راهباً في شخص مارتن لوثر زعيم الإصلاح الديني وجون نوكس زعيم المطهرين، والبطل كاتباً وأديباً في شخص صمويل جونسون وروسو وبرنز، والبطل ملكاً وحاكماً في شخص كرومويل ونابليون بونابرت.    
لا غرابة في تعدد وتباين صور الأبطال في الحضارة المادية الحديثة المعاصرة كونها تختلف عن كل ما سبقها من الحضارات (المثالية) في التاريخ، فهذه الحضارة في طريقها لاستهلاك كل ما تختزنه الأرض في باطنها، وتغذ الخطى وبجرأة الى تسليع كل ما يتحرك على سطح الأرض، وغزت الفضاء بمعداتها التكنولوجية بعد ان كان الإنسان يتخيله بالرواية ويتغزل بجمال نجومه وكواكبه بواسطة الغناء والشعر. وهو عصر مفعم بالثورات والتغيرات الاجتماعية المتسارعة وانتشار المدارس والفلسفات والمذاهب الثقافية، وقد عبر عن ذلك وبصورة مغايرة لتصورات معاصره توماس كارليل عن كينونة البطل، شاعر روسيا الكبير ميخائيل ليرمنتوف (1814 - 1841) في روايته بطل من هذا الزمان، فبطل روايته (بتشورين) قد اثار استفزاز القارئ وتساؤله (أي بطل هذا؟ إنه سخرية مرة!)، وقد أجاب ليرمنتوف على هذا بالقول (إن بطل هذا الزمان لهو صورة حقا، ولكن ليس صورة رجل واحد، إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله).
 عرّف عالم النفس الشهير كارل يونغ البطل بالشخصية القوية التي تتميز بالقتال ضد الظل، أي إنها تبقي على كل ما يجب ألا يغزو المجال الاجتماعي حتى لا يتعرض الجميع للأذى، ويرمز الظل بحسب اختراع يونغ، الى كل ما هو منحط في أخلاق الإنسان، إذ قصد به يونغ وجود الجانب السلبي القاتم في الشخصية والذي يحتوي على النزعات العدوانية والتخريبية ويتموضع في أعماق النفس البشرية، وكذلك يتصف البطل بالجهل، لأن تصميمه يشغله عن التوقف للتفكير بشكل مستمر عن طبيعة مايحاربه، ويذهب العالم فرويد في كتابه (موسى والتوحيد) الى تفسير لايبتعد عما ذهب اليه تلميذه الأشهر يونغ في السمة الأخلاقية للبطل، ويتخذ من السيد المسيح مثالا للبطل، كونه الابن الذي يفتدي او يستيهم افتداء الزعيم المفترض للأبناء الذين تمردوا على سلطة الأب وقتله بحسب التفسير الفريدوي لنشأة الآلهة، وكذلك تحمل المسيح التضحية بحياته تكفيرا عن الخطيئة الأولى التي اغضبت الإله وطردت الإنسان من الجنة، وفرضت على الإنسان في ما بعد حتمية الموت، والتي كان من نتائجها المباشرة جريمة قتل الأبناء للأب والاستحواذ على سلطته، ويقول فرويد (إننا نتعرف هنا على الذنب المأساوي الذي يختلج في أعماق البطل في الدراما. وهو الذي يعسر توضيحه وتعليله بصورة او أخرى، فمن المحتمل ان يكون البطل وجوقة الممثلين في المآسي المسرحية القديمة ممثلين للأبطال المتمردين ولمؤامرة الأخوة عينها, وليس من عديم الأهمية ان نلاحظ ان الحياة دبت في اوصال المسرح من جديد في القرون الوسطى مع قصة آلام المسيح).