المذكرات!

الصفحة الاخيرة 2019/02/23
...

 جواد علي كسّار
انتهيتُ للتوّ من قراءة الملاحظات الناقدة التي دوّنها الصديق العزيز الأستاذ حميد الكفائي على مذكرات د. أياد علاوي. مع ذلك لم أرَ في هذه الملاحظات على تقدير صحتها، ما يُقلل من قيمة هذه المذكرات، لأن الأصل عندي هو وجودها. فما دمنا نتحدّث عن السياسي، فإن القيمة الأساسية، أن يُصدر السياسي مذكراته في حياته، وتكون بمتناول الأيدي، عرضةً للمراجعة والدراسة والنقد، على حياة صاحبها وفي ظلّ وجوده.
لو افترضنا أن هذه المذكرات قد صدرت بعد وفاة أياد علاوي، فقد كان نقد الكفائي يتجه إلى مراكز اعتبارية، من قبيل «كلمتي إلى التاريخ» و«شهادتي للتاريخ» وغيرها من المسمّيات الاعتبارية. أما الآن فقد صدر النقد بكلّ جرأته وشجاعته وبوضوحه وصراحته، إلى صاحب المذكرات مباشرة، وصارت المبادرة بيده، بمقدوره أن يصحّح ويوضّح، بل له أن يكذّب ويطلق ما يراه من مواقف.
لقد كانت كتابة المذكرات ولا تزال حاجة ضرورية ملحة في الواقع السياسي العراقي ما بعد التغيير (2003م) لاعتبارات متعدّدة، تدخل في توثيق هذه المرحلة، والمراجعة والتقويم، وبناء الذاكرة، وتصحيح تشوّهات الوعي العام لاسيّما عند الأجيال الجديدة. لكن مع الأسف لم يتحوّل ذلك إلى ثقافةٍ بعد، لأسباب كثيرة نفسية واجتماعية وتاريخية، أهمّها ما يدخل بسجيّة العراقي نفسه وتركيبته الشخصية، بما في ذلك شخصية السياسي حتى وهو يتسنّم أعلى المواقع.
الراحلون عن المشهد السياسي كُثر خلال عقد ونصف، منهم السادة محمد باقر الحكيم، عز الدين سليم، عقيلة الهاشمي، عبد العزيز الحكيم، أحمد الجلبي، أنوشروان مصطفى، محمد بحر العلوم، محسن عبد الحميد، جلال الطالباني، هاشم الموسوي، جلال الماشطة، مهدي الحافظ وغيرهم.
أعتقد أن الفرصة لم تفت بعد، فبالنسبة للأحياء بإمكانهم أن يبادروا إلى إصدار مذكراتهم تدويناً مباشراً من قبلهم أو إملاءً، أو بأيّ أسلوب موائم. وبشأن الراحلين بين أيدينا خمائر ثرية للكتابة عنهم. كمثال شخصي احتفظ لعزّ الدين سليم وعبد العزيز الحكيم وأحمد الجلبي وغيرهم، عدّة ساعات من الحوار في قضايا مهمة وحساسة. ولدى غيري أيضاً محاورات مع هؤلاء وغيرهم موثقة بالصوت والصورة، كما سمعتُ ذلك مباشرة من الزميل توفيق التميمي وسواه، تصلح لتدوين مذكرات هؤلاء وإنقاذ هذه المادّة، بهمّة فريق عمل مختص، يُنشأ له مركزاً مستقلاً، أو تبادر على تبنيه واحدة أو أكثر من المؤسّسات الموجودة فعلاً، كوزارة الثقافة وبيت الحكمة وشبكة الإعلام.
كم بودي أن يطّلع سياسيّونا والمعنيون ببناء الوعي في بلدنا، على تجارب السياسيين في المنطقة والعالم، وحرصهم الشديد على تدوين مذكراتهم، والتفنّن في بناء هذه المذكرات وكتابتها، لاسيّما الرؤساء والقيادات الكبيرة.
تنص منهجية البحث التاريخي على أن لا تأريخ من دون وثائق، وتاريخ العراق السياسي بعد التغيير لا يشذّ عن هذه القاعدة. كما تعلمنا تجربة الحياة، أن الوجود لا يقبل الفراغ، فإذا لم نُبادر لملء ذاكرة شبابنا والجيل الجديد بما هو مناسب، امتلأت بالغث والزبد
وما هو تافه!