عبد الستار ناصر.. رواية لم تكتمل

ثقافة 2021/08/03
...

 هدية حسين
 
هناك حيث ترقد، قريباً من أشجار القيقب في البلد البعيد، ها قد مرت ثماني سنوات على غيابك، وللمرة الثانية لم أزرك، لم أضع قرب شاهدتك زهوراً، اعذرني لقد بعدت المسافات بعد أن عدتُ الى مسقط القلب من دونك، كم كنت تحلم أن نعود معاً بعد أن تعود إليك عافيتك التي سلبها الترحال.
هل مازالت ذاكرتك متوهجة؟ إذن ستتذكّر الكثير من ذكرياتنا، من رحيلنا المتواصل، من جرعات الأمل التي نأخذها كل يوم بأن تشفى ونعود الى العراق، وتأسف لأنك لم تُكمل روايتك التي نشرت منها فصلين ندمت في ما بعد على سرعة النشر لتعمل من جديد على كتابتهما بشكل أفضل، وكان يدور في ذهنك أنك ستكمل الرواية قبل نهاية عام 2013، لكن السفن غيرت بوصلتها ولم تكترث بالربّان، ماذا عساني أفعل بالفصلين اللذين يرقدان بخط يدك الجميل في أحد الأدراج منذ ثمانية أعوام؟ ينتظران من كانت أصابعه تأبى الكتابة إلا على الورق لتتنفس شخوصك وتُكمل حياتها، كنت بدأت بكتابة الرواية في العام 2009، والمكان عمان، لم تُصب بعد بجلطة الدماغ.
 وحالما أكملت الفصلين كانت الحياة قد تغيرت ولم تعد بالنسبة لك سوى صور مغبشة، ومرت ثلاث سنوات لم تعانق أصابعك الكتابة، كنا قد هاجرنا في العام 2010 الى كندا لعل الأيام تغير طعمها المر والجسد يعود الى زهوه، ولكن فصول كندا الثلجية لم تستطع أن تعيد الحرارة إلى فصول روايتك، كنت تحاول كل يوم، طال الأمر حتى عدت ببطء، لكن عودتك للكتابة كانت باتجاه معشوقتك، القصة القصيرة، وكلما ذكّرتك بالرواية قلت لي: لم يحن الوقت بعد، وذات صباح استيقظت مبكراً على غير عادتك، أمسكت بالأوراق ورحت تعيد صياغة ما كتبته، كنت هذه المرة عازماً على إنهاء الرواية، تغير الكثير في هذين الفصلين كتبتهما بثقة وبتركيز، لم تعد صور الكلمات التي كانت آثار الجلطة تبتلعهما صوراً مغبشة، أعطيتني الدفتر الأول، في أعلى الصفحة عنوان (وصية خريف) وتحته عبارة (عشتُ أكثر مما ظننت) وجاء  الإهداء (إلى فوزي كريم.. كتابي الذي أقرأ.. الشاعر الذي أرى) وما إن انتهيت خلال أيام قليلة من الفصلين بدفترين اثنين وأمسكت بالدفتر الثالث حتى انتابتك حيرة، بقيت تخربش وتكتب جملاً ثم تشطبها، وتحاول في اليوم الثاني والثالث من دون جدوى، وأخيراً قلت لي: كأن ذاكرتي توقفت عند العام 2009، الكلمات لا تطاوعني والشخصيات تهرب مني، سآخذ استراحة لمدة أسبوع، الاستراحة طالت وتمددت لأسابيع وأشهر، وبعد إلحاحي قلت بنبرة حاسمة: لقد انتهيت من الرواية نفسياً، لا أستطيع إكمالها.. وكتبت في الدفتر الأول (هذه الرواية كتبتها في 7 حزيران 2009، توقفت عن الكتابة في 19 تشرين الثاني بسبب إصابتي بجلطة في
الدماغ).
فكرتُ بعد عام على غيابك أن أكمل الرواية بفصل ثالث طويل، هكذا اقترحتُ على نفسي، آخذ دور المرأة التي تحدث الراوي عنها ولم تظهر ككيان سوى على لسان البطل، واستشرت أصدقاء لي بمن فيهم ناشر كتبي السيد ماهر الكيالي، والصديقة الروائية ميسلون هادي، والشاعر فوزي كريم، الجميع رحب بمقترحي، وقال بأنها ستكون رواية بفكرة جديدة، وعند الشروع بالكتابة وجدتني أحرث في حقل لا يشبه حقلك، لم أستطع السير في منعطفات كلماتك  أو رهافتها أو الانزلاق بسهولة على مفاتن الجسد، لا يمكن أن أكتب نيابة عنك، من الصعوبة أن أعيد الحياة لحياة فرّت من مبدعها، لذلك ركنت الفكرة حتى تلاشت وامّحت، إذ من المستحيل إكمال عمل إبداعي بأنامل غير أنامل صاحبه، وصاحبه على سفر لا ينوي العودة منه أبداً، ليس ثمة مشكلة مع قصصك غير المنشورة، لن تذهب إلى أدراج النسيان، ستجد طريقها الى النشر فهي مكتملة، جمعتُها وأصدرتها مزيّنة بصورة كنتُ التقطتُها لك في مدينة نياغرا، واخترتُ عنوان المجموعة من إحدى قصصك (متى يختفي الآخر مني) بطلها رجل يعبر القارات ويجد نفسه في أمكنة متعددة في الوقت نفسه بكل الأمراض التي نخرت جسده، وبكل الأسرار التي ظلت في أعماقه عصية على الكشف حتى يصل في نهاية رحلته الى الهدوء بعد أن تخلص من الآخر الذي هو منه.. وبعد ذلك الهدوء في نهاية القصة رحلت
بهدوء.
هل تعرف أن فوزي كريم قد رحل هو الآخر؟ كان ذلك في العام 2019، هو رحل في منفاه البريطاني بلندن، وأنت رحلت في منفاك الكندي بمدينة هاملتون ذات جمعة، الساعة الحادية عشرة مساءً، وبغداد كانت قد استيقظت على صباح الثالث من آب، لطالما اتصل بي فوزي كريم بعد غيابك، منذ اليوم الأول وقبل أن تستقر في المكان الأبدي استحلفني أن أضع في قبرك وردة حمراء نيابة عنه، فوضعت باقة ورود، وحدثته في ما بعد عن روايتك، صوّرتُ له الإهداء وبعثته، وفكرت أن أرسل الرواية إليه فلعله يجد مخرجاً لعمل لم يكتمل، لكن فكرة إرسالها جاءت متأخرة جداً، فقد ترجل فوزي كريم عن صهوة إبداعه ولحق بك في يوم جمعة
 أيضاً.
الآن أعيش في هدوء، هدوء صاخب، وأفكر كثيراً بمصير روايتك غير المكتملة، من سيحتفظ بها إذا ما غادرتُ أنا الحياة، وربما سأخلف ورائي رواية غير مكتملة أيضاً؟ وثمة مبدعون عراقيون سيتركون وراءهم مشاريع قصص وروايات ومسودات لأفكار مؤجلة، كم أتمنى أن يكون ثمة متحف صغير لمقتنيات أدبائنا من بينها تلك المشاريع التي لم يتسنَ الوقت لأصحابها بإكمالها، كم أتمنى أن لا يضيع الأثر، أن نرد جزءاً من الاعتبار لهم لكي لا تمحو الأيام آثارهم، أن يكون فصلا روايتك في ركن من المتحف مع أشياء أخرى... فهل من مجيب؟