سيرة المجتمع المدني في العراق

آراء 2021/08/04
...

  صلاح حسن الموسوي
في نهج اثبت خطأه التام، اختلف الأميركان بعد احتلالهم للعراق عام 2003 مع نهج اسلافهم المحتلين البريطانين، الذي بادروا اضطرارا وعلى اثر قيام ثورة 1920 الى انشاء دولة عراقية وتزويدها بجرعة من المتانة، حرصا على ديمومة مصالح بريطانيا التي التقت مع مصالح المؤيدين لها (ملك من خارج العراق – ضباط شريفين انشقوا عن الدولة العثمانية – شيوخ قبائل ورجال الدين وقفوا بالضد من الثورة)،
 
 بالمقابل انتهج القائمون على الاحتلال الأميركي رؤية نيو ليبرالية متطرفة امنت بأن اضعاف الدولة سيقود الى نتيجتين حاسمتين في سبيل بناء ديمقراطية سياسية، وهي اولا ان المجتمع سيكون اقوى من الدولة وأنه سيسمح بظهور تنظيمات مدنية في داخل المجتمع، اي شكل من اشكال تنظيم المجتمع لنفسه بعيدا عن تدخل الدولة، وهذا المقصود به اول: اطلاق يد القطاع الخاص والاحتكام لآليات السوق ونظام العرض والطلب، وثانيا: تأسيس ما سمي بمنظمات المجتمع المدني (ngo) كبديل ضمني عن دور الأحزاب السياسية، وايكال اليها ما اصطلح بـ (الحوكمة) بين المجتمع والدولة، وقد برهنت الوقائع في ما بعد عن طوباوية هذه الرؤية ومجانبتها لواقع العراق قبل الاحتلال الأميركي، اذ إن الدولة والمجتمع اللتين احتدمت مشكلاتهما في اعقاب الحرب العراقية -  الايرانية، ثم بعد حرب الخليج 90 –  1991 والحصار الاقتصادي 
الشامل. 
كل ذلك ادى الى نشوء وضع فريد: دولة شمولية ضعيفة، ومجتمع مدني منهك، بل محروم من مؤسساته المستقلة، ولم تعد الدولة راعيا اجتماعيا بعد ان ضعفت رعايتها للخدمات الصحية والتعليمية، لكنها بقيت حريصة على الاحتفاظ بادارة اجهزة العنف (المشروع)، متقاسمة احيانا استثمار العنف مع قوى المجتمع ما قبل الحديثة، والتي انتعشت مع ضعف قبضة 
الدولة.
إن المجتمع المدني بتعريف الفيلسوف هيغل هو (الفرق او الاختلاف الذي يدخل بين الأسرة والدولة، مع ان تشكيله يتم بعد بناء الدولة لأنه كفرق او كاختلاف بين الأسرة والدولة يفترض وجود الدولة)، وهذا التوسط للمجتمع المدني بين الأسرة والدولة يعني بالضبط التوأمة التاريخية مع الأمة، التي تتشكل بواسطة الأفراد المواطنين (المواطن، عضو في المجتمع المدني وفي الأسرة ايضا، ولكن ما يميزه كمواطن ليس رابطة الدم غير المشروطة او الحب غير المشروط، ولا رغبته في الأكتفاء، وانما قدرته على الحكم على ماهو خير وماهو 
شر). 
وقراءة في سيرة الدولة العراقية نرى حصول نوع من الوحدة (الاجتماعية – السياسية) داخل مجتمع سكان بلاد الرافدين قبل تشكل الدولة الحديثة، بعد ان توحدت التعدديات الأثنية والقومية في ثورة العشرين واشتراك ابناء العشائر الى جانب رجال الدين واصحاب التعليم والثقافة الحديثة، ثم تمّكن هذه الدولة بفعل ظروف داخلية وخارجية من اعالة نفسها ومراكمة مواردها الاقتصادية، وفق مراحل الدولة ماقبل الريعية (1921 - 1951) الدولة الريعية ( 1951 -  1964) الدولة الريعية المالكة والمنتجة (1964 - 1991)، وقد افلح ذلك في اطلاق مساراجتماعي حيوي باتجاه تشكيل (ذات وطنية عراقية) ساهم في نموها توسع المدن وشيوع القيّم المدنية، وانبثاق طبقة وسطى ترتكز على مكون اخلاقي صلب أهّلها لأخذ زمام المبادرة في التنشئة الوطنية وقضايا الشأن العام عبر ابداعها الثقافي والفني وحضورها المؤثر في الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات الأهلية والتنظيمات العسكرية الوطنية التي اشتهر بينها (تنظيم الضباط الأحرار).
ومن الجانب الآخر المنتقد لسيرة الدولة والمجتمع المدني في العراق، كان انسياق الدولة والمجتمع العراقي في مجرى الحداثة العالمية ظاهريا،اكثر من كونه مرنا في صيرورة التطور والتجاوز لمراحل انجاز الدولة الحديثة لمهامها التاريخية، وتقدم المجتمع ضمن خاصية التعدد الخلاق داخل الوحدة الوطنية الراسخة والصلبة، فلم تتمكن الذات الوطنية الناشئة من فك اسرها والانعتاق من سطوة بنى الانتماءات الأولية السابقة للدولة (العشيرة، الطائفة)، فهذه العصبيات سجلت حضورا مؤثرا في عصب الدولة وحراكها بصرف النظرعن طبيعة الحكم ( ملكي، جمهوري) ونظريته السياسية (محافظ، ثوري) واليات تحكمه (ملاكين اقطاعيين، احزاب محافظة، احزاب ثورية 
شعبوية ). 
وهذا بالضبط ما يدفع بالتجربة الديمقراطية العراقية الناشئة الى حوائط الصد بسبب انغلاق التعددية السياسية الظاهرة على شبكات المصالح الشخصية والفئوية والاجتهاد الحثيث في زرق عناصر القوة للشبكات القرابية والعصبوية الأولية التقليدية، ومد سطوتها على مفاصل السياسة والثقافة 
والاقتصاد.
إن الامتحان الأول للمجتمع المدني كمفهوم معياري في الدولة الديمقراطية يتمثل بقدرته على الصمود امام الرغبة لاعادة الوحدة الى ما هو منفصل عن الحداثة، اي الأمة – العشيرة او الأمة – الطائفة الدينية، وقدرته على تمديد المسافة الفاصلة بينهما الى حيز عام مشروع، جاعلا المواطنة تذكرة الدخول اليه، ونمو المجتمع المدني في البلدان حديثة النشأة يرتبط ايجابيا مع قوة الدولة، حيث لعب الريع النفطي المتنامي دورا مهما في اتساع قاعدة الطبقة الوسطى العراقية، والتي مثلت الحاضن الأهم لانطلاق نشاطات المؤسسات الأهلية والمدنية (الأحزاب الوطنية، النقابات المهنية، الجمعيات الأهلية) ويبدو ان الخطر الذي اصاب الطبقة الوسطى في العشرين عاما من حياة الدولة السابقة المنهارة، ما زال ماثلا مع الاعتماد الكلي لاقتصاد الدولة الجديدة على بيع النفط، والانجرار الأعمى خلف النظرية الاقتصادية النيوليبرالية، ما يتسبب بجعل المدني والسوق شيئا واحدا، اي اخضاع المجتمع المدني لآليات السوق واقامة دولة تابعة تزداد فيها الهوة بين نخبة متنعمة، واغلبية فقيرة مما يهمش من مشاركتهم السياسية، وبالنتيجة هدم اي امكانية لاقامة مجتمع مدني، والفقر بحد ذاته لا ينتج الحالة العقلية، التي يسميها هيغل الرعاع، وبل تنشأ خصوصية هذا النوع من الفقر من اضافة الاغتراب عن الدولة والمجتمع والنظام القائم وذلك بتحطيم البنى الأهلية (المدنية).