من (فَخارو) السُّومريَّة إلى الانكليزية (fire)

فلكلور 2021/08/05
...

  سعيد الغانمي 
 
لستُ أُخفي قلَّةَ ميلي إلى الآراء التي تردُّ اللُّغات المختلفة إلى لغةٍ واحدةٍ، وأعدُّها في أحسن أحوالها مجرَّد تلاعبٍ فنِّيٍّ جميلٍ بالمفردات، يستقطب اهتمام المتلقِّي ولا يقنعُهُ بإنجاز بحثٍ دقيقٍ على الإطلاق. وفي رأيي فإنَّ من الأفضل دائماً البدء من النُّقاط المتَّفق على صحَّتِها، وتحويلها إلى قوانينَ صوتيَّةٍ قبل كلِّ شيءٍ. وليس بخافٍ أنَّ الغربيين قد طوَّروا علم الاشتقاق (etymology) تطويراً ممتازاً، ولكنْ بعد أن أقاموه على أسسٍ صوتيَّة مستمدَّة من بحث دقيق في علم الصَّوت، كما هو الحال في قانون غريم (Grimm’s law)، الذي يُعنى بتفسير الكيفيَّة التي تحوَّلت بها الأصوات الانفجاريَّة في اللُّغات الهندو أوربيَّة الأولى إلى أصوات احتكاكيَّة في اللُّغات الجرمانيَّة المتأخِّرة عنها، بحيث تحوَّل هذا البحث إلى قانونٍ صوتيٍّ ثابتٍ أُطلِقَ عليه اسم (قانون غريم). أمّا نحن، في هذه البقعة من العالم، فنفتقر إلى ما يفسِّر لنا تحوُّل الشِّين الأكديَّة إلى سين في العربيَّة. وبرغم هذا التَّحفُّظ في البحث عن المشابهات اللَّفظيَّة العشوائيَّة، دون مراعاة التَّحوُّلات التاريخيَّة، فإنَّ بعض المشابهات ذات فائدة كبيرة، إذا ما أُحيطَتْ بالضَّوابط اللُّغويَّة والتاريخيَّة.
ومناسبة هذا القول إنَّني عُنيتُ مؤخَّراً بدراسة آثار «ملحمة جلجامش» في الثَّقافات التي احتكَّت بها. وقد اطَّلعتُ على الصِّيغة الحيثيَّة والحوريَّة المترجمة عن البابليَّة، في كتابٍ صدر قبل سنتين، وفي كتابٍ آخرَ سابقٍ عليه حول اعتبار الأدب الحيثيِّ مرحلةً وسطى لنقل أثر «ملحمة جلجامش» إلى ملحمتي هوميروس في الإلياذة والأوديسة. وهذا ما تطلَّبَ منِّي أن أُعيد قراءة بعض الأعمال، التي تتناول بعض الملامح اللُّغويَّة الخاصَّة بالحيثيَّة.
واللُّغة الحيثيَّة هي لغة هندو أوروبيَّة كان يتكلَّمُها الشِّعب الحيثيُّ الذي عاش في الأناضول في تركيا وشمال سوريا، وقد انتقلت بعض مفرداتها إلى الإغريقيَّة، ومنها إلى اللُّغات الأوربيَّة الأخرى، وصولاً إلى الإنكليزيَّة. وقد أثار استغرابي عددٌ من الكلمات الحيثيَّة القليلة التي انتقلت إلى اليونانيَّة، ثمَّ إلى الإنكليزيَّة. لكنِّي أعتقد أنَّها كلمات بابليَّة، كانت قد انتقلت قبل ذلك إلى الحيثيَّة، وفي الوقت نفسه إلى العربيَّة، كما سيرى القارئ.
كلُّنا نعرف كلمة (fire) الإنكليزيَّة التي تعني النار. لكنَّ هذه الكلمة مشتقَّة من الإغريقيَّة من كلمة «ﭘور» (πϋρ)، وهي بدورها مشتقَّة من كلمة (فخرو: pahhru) الحيثيَّة بمعنى النار. وقطعاً فإنَّ مَن يكتفي بالمشابهات اللَّفظيَّة سيسارع إلى تقريبها من كلمة (بخور) العربيَّة. لكنِّي أفضِّل العودة إلى كلمة (فَخارو) (paâru) في المعجم الأكديِّ بمعنى الفخّار الذي يُطبَخ في الأتُّون. والكلمة في الأكديَّة تدلُّ على معنى الجمع والحشد والتَّأليف والتَّركيب بين الأشياء. غير أنَّها كلمة من أصلٍ سومريٍّ يدلُّ على الفخّار الذي يوضع على النار ويُطبَخ به. ولا ريبَ في أنَّها انتقلت إلى العربيَّة بالدَّلالة على هذا المعنى الأخير.
الكلمة الثانية هي كلمة (anti) الإنكليزيَّة التي تعني (الضِّدَّ). وهي كلمة مشتقَّة من الإغريقيَّة (άντί)، التي اشتقَّتْها بدورها من الحيثيَّة بصيغة (خانْتي: ânti) بالمعنى نفسه. وأنا أرجِّح أنَّها مأخوذة من كلمة (عينو: ênû) البابليَّة المرتبطة بكلمتي (عينيتو: ênîtû)، و(عنوتو: unūtu)، التي تدلُّ على البديل والآلة القويَّة وكفعلٍ يقلب ويغيِّر. وليس من شكِّ في أنَّها ترتبط بكلمة (عَنَت) ومشتقّاتها في العربيَّة.