ا.د. ابراهيم خليل العلاف
في حلقة سابقة من برنامجي التلفزيوني الذي اقدمه من على قناة (الموصلية ) برنامج (موصليات )، تحدثت عن الموصل والاندلس. ومما قلته إن واحدا من أبناء الموصل اشتهر في التاريخ باسم (زرياب) كان له دور كبير في تحديث، وتطوير اوضاع الاندلسيين من حيث الملبس، والمأكل، والحلويات، والاتيكيت. ومن المعروف ان مدينة الموصل كانت على صلة ببلاد الاندلس، ونشأت بين الموصليين والاندلسيين اكثر من وشيجة، وتأثر الاندلسيون بما كان في الموصل من نشاط علمي وثقافي.كما تأثر الموصليون بما كان في الاندلس.
ومن المؤكد أن (الحج) الى الاماكن المقدسة في الحجاز، وفي المقدمة مكة المكرمة والمدينة المنورة كان أحد العوامل، التي دفعت الاندلسيين للقيام برحلاتهم الى الديار المقدسة عبر حلب والموصل.
ومما تذكره المصادر التاريخية، ان الموصل كانت محط انظار المسلمين في الاندلس، لما تتمتع به من مكانة مهمة، خاصة عندما حكمها الاتابكيون، وما كان لها من دور في التنبه للخطر الصليبي، الذي استهدف القدس ومدن بلاد الشام الاخرى منذ ايامه الاولى في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي.
لقد أثر عدد كبير من العلماء الموصليين في الاندلس، وكان من نتائج هذا التأثير التواصل الرائع والمتبادل بين علماء الموصل وعلماء الاندلس، حتى ان العالم الاندلسي كان يحرص على شد الرحال الى الموصل، لكي يتعلم ويدرس ويلتقي بشيوخ الموصل ومثقفيها في هاتيك الايام.
ويقينا ان ثمة عوامل جذبت اولئك الاندلسيين للمجيء الى الموصل، ومنها موقع الموصل وشهرتها بين البلدان وعلو كعبها في العلم والصنائع والتجارة والمعرفة.
وكان من الأسباب التي جذبت الدارسين الاندلسيين الى الموصل، انها كانت تضم عددا كبيرا من المدارس العلمية، التي اسستها اسر علمية معروفة ومنها على سبيل المثال اسرة الشهرزوري العلمية، واسرة السكري العلمية واسرة بنو عصرون العلمية. وقد تحدث الاستاذ الدكتور عبد الواحد ذنون طه في واحد من بحوثه عن ذلك، وقال إن التواصل العلمي والمعرفي بين الموصل وحلب كان كبيرا بالرغم من البعد الجغرافي.
كان الاندلسيون الذي يأتون الموصل صنفين، فهناك الطلاب وهناك الاساتذة ويعد القرن الحادي عشر الميلادي اي القرن الخامس الهجري قرنا مميزا، تميز بتنامى العلاقة بين الموصل والاندلس.
وفي مقال سابق لي عن (الموصل في عيون الرحالة العرب)، ذكرت اسماء ثلاثة من الرحالة الاندلسيين، الذين جاؤوا الموصل وهم ابو حامد الغرناطي، وابن سعيد المغربي، وابن الرومية.
وثمة اعلام ورموز اندلسيون زاروا الموصل ودرسوا فيها واطلعوا على معالمها، ومن هؤلاء محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638 هجرية - 1240 ميلادية وكانت زيارته محطة مهمة من محطات هذا العلامة والمتصوف المعروف. وقد ذكر ان من سبب زيارته هو رغبته الجامحة لزيارة قبر الخضر (عليه السلام) والشيخ المتعلق بالخضر علي بن عبد الله بن جامع الصوفي.
وخلال زيارة محيي الدين بن عربي للموصل، قام بزيارة مرقد الشيخ ابي عبد الله المعروف بـ(الشيخ قضيب البان) ويقع مرقده اليوم قرب ملعب الادارة المحلية بين رأس الجادة وباب سنجار.
كما لا بد أن اشير الى أن الموصليين ايضا قاموا برحلات الى الاندلس وتبادلوا العلوم والمعارف بينهم، وهناك لدينا اسماء كثيرة لعلماء من الموصل زاروا الاندلس واطلعوا على الحركة العلمية والثقافية فيها، منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ ابراهيم بن ابي بكر الموصلي المحدث المعروف، وقد اشارت المصادر المتداولة الى انه حدث في الاندلس عن ابي الفتح بن الحسين بن بريدة الموصلي المتوفى سنة 347 هجرية/ 948 في كتابه (الضعفاء والمتروكين). أقول وأنا اتحدث عن علاقة الموصل بالأندلس، لا بد أن اقف قليلا عن الموسيقار الموصلي الكبير زرياب وما قدمه للأندلس والعالم. ولهذا الموضوع قصة طويلة ذكرت تفاصيلها، في كثير من الكتب والمعاجم ودوائر المعارف ومنها (انسكلوبيديا ويكيبيديا ) الالكترونية واحاول اليوم أن ألخصها لكم، وهي ان الموسيقار والشاعر والفلكي والبلداني ومؤسس علم الذوق (الاتيكيت) في العالم زرياب كان موصليا ولد في الموصل سنة 789 ميلادية وتوفي في قرطبة سنة 857 ميلادية، وعاش في عصر هارون الرشيد في بغداد وعصر الخليفة الاموي في الاندلس عبد الرحمن الثاني، وزرياب هو ابو الحسن علي بن نافع الموصلي الملقب بزرياب وكلمة (زرياب) تعني طائر (الشحرور).
وقبل ايام قرأت مقالا للدكتور رشيد الخيون عن زرياب ومما قاله إن زرياب برز في بغداد عن طريق استاذه ابراهيم الموصلي (توفي 188 هجرية – 804 ميلادية وقد تقرب من الخليفة هارون الرشيد ( توفي 193 هجرية – 809 ميلادية )، الذي أُعجب به ايما اعجاب وقدمه على غيره من المغنين.
وبعدها سافر زرياب الى القيروان ومن هناك اتصل بالخلفاء الامويين في الاندلس، فصارت له منزلة عند عبد الرَّحمن بن الحكم (ت238هـ - 852 ميلادية)، لأنه صاحب باع في الموسيقى. ويمكننا عدّه وكأنه الموسيقار النمساوي الشهير بيتهوفن الذي كان له دوره الفاعل في عصر التنوير في اوروبا.
ما أريد أن اقوله: إن اخبار زرياب موجودة في بعض المصادر، ومنها كتاب (المقتبس) لمؤلفه القرطبي ( توفي سنة 469 هجرية – 1077 ميلادية )، فهو من اقدم المؤرخين الذين تحدثوا عن زرياب وما ادخله الى الاندلس من تأثيرات حضارية، ومنها انه ابتدع الموشحات الاندلسية وزاد على العود الوتر الخامس بعد ان كان اربعة أوتار، وجعله مقابل موضع النّفس مِن الجسد، وأسس نظاماً لتدريس الموسيقى هناك، وأدخل موضة الألبسة لكل فصل لون، ولباس خاص، وأدخل استخدام آنية الزجاج في الموائد بدلاً مِن المعادن، كما ادخل الوانا من الطعام لم يعرفها الاندلسيون سواء منهم العامة او الخاصة.
ومن الطريف أن أقول إن زرياب له اسهامات كبيرة في تطوير الموسيقى العربية، فهو من اخترع الموشح الاندلسي، وهو من ادخل مقامات جديدة وهو من جعل مضرب العود من ريش النسر، وهو من وضع قواعد فنية لتعليم المبتدئين الموسيقى. والأهم من كل ذلك انه اسس اول معهد للموسيقى في العالم في قرطبة هو (دار المدنيات) للغناء والموسيقى. أخيرا لا بدَّ من القول إن الاحتكاك الحضاري والمعرفي بين الموصل والاندلس وانتقال العلماء بين البلدين اسهما في تنامي ونشر المعرفة العلمية والثقافة الفنية في العالم الاسلامي. وكان هذا الاحتكاك والتواصل رمزا للتلاقح المعرفي، الذي عرفته تلك العصور المهمة من تاريخنا العربي الاسلامي. وفي الوقت نفسه دل على ان الموصل كانت مصدرا للتحضر والمدنية، وإن تأثيرها في غيرها من المدن الاسلامية وخلال العصور التاريخية المختلفة، كان
كبيرا.