ثراء المشهد الطبيعي وتعدد مستويات التأويل في قصيدة (بضع أشجار) لجون أشبري

ثقافة 2021/08/05
...

 محمد تركي النصار
 
 تتناول قصيدة (بضع أشجار) للشاعر الأميركي جون أشبري ثيمات متعددة تتضمن محاولة فهم العالم، العلاقات العاطفية، العزلة، والاشارة الغامضة المتعلقة بمعنى أن تكون شخصا منفصلا عن المجموع،إذ يشير أشبري الى تعقيدات التواصل بين البشر. 
يتفق معظم النقاد والقراء على صعوبة شعر أشبري وبأنه يحمل وجوها متعددة وتأويلات قد تصل أحيانا الى حد التناقض الحاد.
قارئ هذا النص يواجه متكلما يحاول أن يفهم طبيعة علاقة عاطفية، إنه يتحدث عن الأشجار المرتبطة مع بعضها لفهم حياته والمفارقات التي تواجهه في هذا المسعى. ويذكر المتكلم علاقته بشخص آخر مشيرا له بـ (أنت) في القصيدة، ويبدو ان العلاقة ينقصها شيء ما، فهم ما، أو رابطة معينة مفقودة ويسعى لاستعادتها. ويرى ذلك العنصر المفقود متحققا في عالم الأشجار.  
     يستفيد جون اشبري في هذا النص من عدة تقنيات أدبية من بينها الجناس والتوقفات الشعرية فضلا عن التدوير، ويكون الجناس عندما تستخدم الكلمات بالتتابع أو على الاقل تكون قريبة لبعضها وتبدأ بالصوت نفسه، بينما تحصل الوقفات الشعرية عندما يتم قطع البيت الى النصف احيانا بعلامات تنقيط أو بدونها، ويخلق استخدام علامات التنقيط وقفات مقصودة في النص، وعلى القارئ ملاحظة كيف يكون للوقفات تأثير على ايقاع القصيدة اثناء القراءة، وكيف تسبقها انتقالة أو تحول في النص:
يالها من كائنات مدهشة 
كل واحدة منها 
تتودد لجارتها 
بلا كلام،
كأننا في عرض صامت.
عنوان القصيدة (بضع أشجار) يوجه القارئ لافتراض أن الاشارة في البيت الأول تتحدث الأشجار، ويبدو المتكلم معجبا بهذه الأشجار واصفا اياها ببساطة بانها مدهشة، وهي تثير الاعجاب إذا اخذناها بشكل منفرد، لأنها أيضا تشكل مايشبه الأسرة.
  فالأشجار تكون مرتبطة ببعضها فيزياويا، وبيئيا، وهذا أيضا مثال للتشخيص في القصيدة وهو اضفاء صفات بشرية على الكائنات الاخرى، والربط هنا بما هو بشري يمثل عنصر جذب واثارة يبرز جليا في الأبيات الاولى من القصيدة، وهي تقترح بأن هذه الأشجار هي أكثر بكثير مما تبدو عليه ظاهريا، وهنا يخلق أشبري مجازا يؤدي اخيرا للحديث عن العلاقات الانسانية، الذات، والحياة بشكل عام.
ويصبح المجاز في الأبيات التالية من القصيدة  أكثر وضوحا وأشد تعقيدا في الوقت نفسه، اذ يستخدم أشبري عنصر التدوير بين البيت الأخير من المقطع الأول والبيت الأول من المقطع الثاني، هنا يتحدث عن (لقاء) بين أشخاص أكثر من حديثه عن أشجار، وهذا اللقاء يحصل صباحا، وهذه الابيات توحي أن هؤلاء البشر المنخرطين في علاقة عاطفية هم منفصلون عن العالم لكنهم يتفقون معه أيضا في بعض التفاصيل فهم دائما جزء من هذا العالم، والبيت الأخير من هذا المقطع  يكون دائريا مما يتطلب من القارئ أن ينساب في قراءته  الى الأسفل حيث المقطع الثالث لمعرفة كيف تكون خلاصة الفكرة. 
ويبدو واضحا في الأبيات اللاحقة بأن ثمة علاقة توحد بين المتكلم ومن يوجه اليه الكلام والأشجار، وتوحي القصيدة في بعض المواقع بأن خللا ما يشوب العلاقة العاطفية: 
نرتب للقاء مصادفة في الصباح 
بعيدا عن هذا العالم ومتفقون معه
فيما تحاول الأشجار أن تخبرنا، أنت وأنا
 بأن مجرد وجودها هنا يعني شيئا
وبأننا بأي لحظة قد نلمس بعضنا، ونحب، ونتحاور.
سعداء بأننا لم نخترع مثل هذا الجمال الذي يحيط بنا 
حيث الصمت مليء بالضجيج. 
تبدو المفارقة هنا واضحة بالصمت المليء بالضجيج في اشارة الى تعقيدات الحياة، وتجسد صورة اللوحة شكل العالم المليء بالابتسامات والصباحات الشتوية والصمت والارتباك أيضا وكذلك الضوء المحير الحاضر في المعادلة، الحياة دائما معقدة ومربكة وهذه هي صورتها التي ينبغي أن نتفهمها ونتقبلها.
ويقدم أشبري مقترحا في الأبيات الأخيرة يوضح بأن الحياة تكون بسيطة وسلسة عندما لانحصرها بمعنى محدد، فالأفضل أن نوجد ونتقبل العالم كما هو، وتعدد اللهجات المذكور في اخر القصيدة هو اشارة الى هذا المعنى فهي رمز للمعلومات العرضية  مثل العرض المسرحي: 
مثل لوحة رسام تشع منها 
جمهرة ابتسامات، صباح شتوي
اذ ارتدت أيامنا هذا التكتم
ووضعت تحت ضوء محير ومتحرك
وهذه النبرات تبدو  وسيلتها للدفاع عن نفسها.