ودولفو الونسو الذي أغْدَقَ نفسَهُ على الآخرين

ثقافة 2021/08/05
...

طالب عبد العزيز
 في صيف العام 2014 وعلى القناة الصغيرة، التي تحاذي الشارعَ، بمدينة سيت، جنوبي فرنسا، التقط مصورٌ عابرٌ لي صورة، مع الشاعر وكاتب المقالات الارجنتيني رودولفو الونسو (1934-2021) حيث كنّا هناك، بدعوة من إدارة متحف المدينة (بول فاليري) لحضور مهرجان للشعر. وعلى مسرح صغير، في زقاق مهمل، من المدينة، جمعتني وإياه قراءةٌ شعرية مشتركة، أفْهَمَنا وقائعَ الجلسة تلك مترجمان، واحد للفرنسية وثان للعربية، ومن بين منافذ ومسارب لغوية عدة سرّب لي احدُ الشعراء المغاربة بالعربية شيئاً من شعر الونسو قليلاً، هذا الذي كان بوصف الشاعر كارلوس باتيلا (رجلاً نبيلاً وهادئاً للغاية ويحب الشعر)..
   فوجئت، وأنا أتصفح المواقع بخبر وفاته، قبل أربعة أشهر، بسبب حادث في الاوعية الدموية، هذا الشاعر الذي يعدُّ واحداً من أهم شخصيات جيل 1950 الشعري في بوينس آيرس، والذي ترجم للإسبانية أهمَّ شعراء القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جوزبين وانغارتي، وبافيزي، وإيكو، ومونتاني، وبيسوا، ومالارميه، ورينه شار وفاليري وغيرهم. 
ومع ندرة ما ترجم عنه الى العربية إلا أنني قرأت نتفاً من شعره هنا وهناك، أفصحت عن شاعر حقيقي كبير، اخترق عالمنا المضطرب سريعاً. كنت قد لمست في خطاه الوئيدة، هناك في المدينة الصغيرة روحاً أخرى، فهو يقول: “فرنسا ممرضة قاسية، إذا كنت تريد النورَ ارفع الحياة. وإذا كنت تحلم بالهاوية/ اجعلهم هاويتك/ لا هاوية الاخرين، ولكن على أرضك».
  كتب الونسو الشعر ومئات المقدمات لكتب أدبية كثيرة، وكان مدافعا قوياً عن الشعر، وبتعبير أحد أصدقائه: فهو الذي أغدقَ نفسَهُ على الآخرين، وعلى استمرارية الشِّعر، هذا الفن الذي قال عنه:” إنَّ الشعر الذي نسعى اليه هو اللغة الحيّة فينا، وهو اشبه بالعدوى، ومثل انتقال الفيروس، ولن يكون شيئاً إن لم يكن التجربةَ التي تمسُّ الروح، والتصوفَ، أو الزمنَ، أو مجردَ التمرد، الشعر هو الحبّ المطلق». 
  ينسحب الضوءُ عن كثير من الشخصيات الثقافية، التي تدعى لمهرجات واسعة، في حين ينفرد بعض الادعياء بالتهام الضوء كله. يمنحني الشاعر الارجنتيني الونسو الفرصة بتذكر العراقي جليل القيسي (1937-2006) كاتب القصة، ومؤلف المسرحيات، وأحد مؤسسي جماعة كركوك، الذي كنت شاهدتُه بأحد مهرجانات الشعر الاخيرة في بغداد، قبل انهيار النظام السابق بسنة او سنتين، صحبة بنتيه، ببذلة كركمية، أو الأقرب الى ذلك، وقد أدّبتها المكواة كثيراً. رأيته وهو يذرع صالة الفندق جيئةً وذهاباً، حيث لم يعبأ أحدٌ به، ولم يعبأ هو بأحدٍ، إنما راح يكيل المسافة بين باب الفندق والاريكة الاخيرة بحسب رؤياه، حيث جلس وتناول القهوة. لم يحْدثْ أنْ حدَّثه أحدٌ، فقد رأيته بضاعةً كاسدةً، في سوق كل ما فيها أنيقٌ وباذخُ الاناقة. هنا، في بهو الفندق، حيث يفاخرُ شعراءُ العاصمة بثيابهم وأحذيتهم وأربطة اعناقهم، أولئك الذين حظوا بنصيب وافر من رضا النظام وأعطياته.