كيف تُفكّر كأنثروبولوجي.. لماثيو أنجليكه

آراء 2021/08/07
...

 د. يحيى حسين زامل
 
فضلاً عن السؤال ما الأنثروبولوجيا الذي يجري على ألسنة عدِّة من الناس، وما اختصاصها الدقيق، وما تدرس، وبما تهتم، يجري السؤال حول كيفية تفكير الأنثروبولوجي بصفته باحثاً وإنساناً وفاعلاً اجتماعياً في الدراسات الأنثروبولوجية، فيأتي كتاب "ماثيوأنجليكه"، المعنون "كيف تُفكّر كأنثروبولوجي" ليجيب عن هذه التساؤلات المطروحة اليوم على ساحة البحث والدرس والتحليل والممارسة، فالأنثروبولوجيا تبدوإنها غامضة ومعقدة بعض الشيء، لعدِّة أسباب بدءا من حداثة مصطلحها، ومروراً بنشأتها وتبلورها، ونهاية بكيفية تفاعل الباحث الأنثروبولوجي
مع ميدانها.
 
مجتمع الوفرة الأول.. سالينز
 يبدأ الأنثروبولوجي "ماثيوأنجليكه"، حديثة مع الكتاب الأول الذي قرأه عن الأنثروبولوجيا، والذي كان بعنوان "مجتمع الوفرة الأول" لأحد أهم الأكاديميين الأنثروبولوجيين "مارشال سالينز"، وكيف أن طريقة تفكير الكاتب أحدثت له صدمة صغيرة من خلال السلوك الاقتصادي، الذي يسلكه سكان المجتمعات الصغيرة في صحراء "كالاهاري"، وغابات الكونغو وأستراليا وأماكن أخرى، فهم يعيشون نمط حياة بدوية وليس لديهم غير عدد قليل من المتاع والممتلكات، ولا يملكون ثقافة مادية معقدة، فهؤلاء الناس لا يسعون إلا خلف الحياة البرية وجمع التوت والترحال حسبما تقتضيه الضرورة، بينما تفترض أدبيات الاقتصاد الغربي أن هؤلاء الأشخاص أناس يسود بينهم البؤس والجوع، ويناضلون باستمرار للبقاء على قيد الحياة، أنهم لا يرتدون غير قطعة واحدة من القماش ولا يستوطنون أرضاً، ولا يملكون إلا القليل من الممتلكات، ووفقاً لطريقة التفكير هذه، فإن حال الصيادين هؤلاء ليست مرشحة لأن تصبح أفضل من خلال المنظار الغربي، ولكن هؤلاء يكتفون بالعمل من ثلاث إلى خمس ساعات باليوم لغرض تلبية حاجاتهم فقط، مع أن بإمكانهم زيادة ذلك، ولكنهم لا يرغبون بذلك لأنه ليس لديهم دوافع برجوازية، بل أن قيمهم تختلف عن قيمنا، ومع أنهم لا يتملكون سوى القليل من الممتلكات لكنهم ليسوا فقراء، لأن الفقر هو إلا وضع اجتماعي، وهو من اختراع الحضارة، وحسب هذه الطريقة في التفكير فإن الأنثروبولوجيا تهدينا إلى أن أغلب الافتراضات التي نفترضها عن المجتمعات الغريبة عنَّا، إنما هي بعيدة عن الحقيقة والموضوعية، وأن الواقع هو بعيد عن نظرنا وتحليلنا
وتفسيرنا. 
 
العمل الميداني.. مالينوفسكي
 ويطرح "أنجليكه" منهجية "العمل الميداني"، الذي ابتدعه الأنثروبولوجي البريطاني "برنسلاومالينوفسكي" بصفته المنهج المميز للأنثروبولوجيا، أي لا يكتفي الأنثروبولوجي بالجلوس في مكتبه أو بيته ويكتب عن مجتمع ما من دون أن يشاركه ويذهب إليه ويشاهده بعينه، ويلمسه، ويتعلم لغته، ويتعرف على أفراده في مدة لا تقل عن عام، ليعرف كيف يفسرون ثقافتهم، وكيف ينظرون لها، فضلا عن نظرته هو إلى تلك الثقافة، وكيف يفسر ثقافتهم، فتجتمع تفسيراته مع تفسيراتهم، وتحليلاته مع تحليلاتهم، ليخرج بصورة كليِّة شاملة وعامة، من خلال عدِّة أدوات، مثل: الملاحظة بالمشاركة، والمقابلة، والمخبرون، والوثائق، فضلا عن الصور والتسجيلات الصوتية
والمرئية.
 
النسبية الثقافية.. فرانز بواس
 أما أهم سمَّة تميِّز تفكير الأنثروبولوجي هو اتخاذه نظرية "النسبية الثقافية"، للأنثروبولوجي الأميركي "فرانز بواس"، إذ تستند الأنثروبولوجيا برمتها بشكل أوبآخر إلى "النسبية الثقافية"، وهي بحسب "أنجليكه" لا تتطلب منك القبول بكل شيء يفعله الآخرون وتجد فيه ظلماً أوخطأً، وهي لا تعني أن ليس لديك قيم ثابتة، أوأنه لا يمكنك أبداً بصفتك أكاديمياً (أو شاعراً أو قسّاً أو قاضياً) أن تقول اشياء حقيقية أوعامة تتعلق بالوضع الإنساني أوعن موضوع يخص الثقافات الأخرى، ولا تعني النسبية الثقافية إدانة البيانات الإحصائية أوالسخرية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو قبول ممارسة ختان الإناث، أوالتصريح بأنك ملحد غير مؤمن، وهي التهم التي عادة ما تساق ضد "النسبيين" أي بأنهم ينكرون وجود بيانات ثابتة صارمة أو ليس لديهم خطوط حمراء أخلاقية، بل حتى ربما معايير أخلاقية، لكن أيَّاً من هذا كله لا صلة له بالكيفية التي يستعمل بها علماء الأنثروبولوجيا النسبية في ابحاثهم ومنهجهم، حين يستهدفون فهم الوضع الإنساني.. إنما هم يؤمنون بحرية الفرد في اعتقاداته وتقاليده وقيمه نسبة إلى ثقافته وبيئته ومجتمعه 
وتفسيره وتحليله لثقافته.
 
نظرية الثقافة
 واستحوذت "نظرية الثقافة" على تفكير الأنثروبولوجيين بشكل كبير، وأصبحت موضوعاً خاصاً بالأنثروبولوجيا، فكتب علماء الأنثروبولوجيا إلى غاية الستينيات من القرن الماضي عن ثقافة "الكواكيوتل"، والثقافة في جزيرة "بالي"، وثقافة "دوبوان"، كما استعملوا عبارات أكثر عمومية من ذلك للإحالة إلى ثقافة البحر المتوسط، أو"الثقافة الميلانية" أو"الثقافة الإسلامية"، أو حتى الثقافة البدائية، وذلك يعني وجود فهم ضمني يقول: إن مثل هذه العموميات تسير إلى مجموعة متنوعة من الثقافات الخاصة جداً، والتي ترتبط بفكرة أن لديها كلها العدسات الثقافية نفسها، أو أنها تقدم وصفات متماثلة إذا 
جاز التعبير.
واستناداً إلى هذا الفهم، أوطرائق التفكير الأنثروبولوجي يمكن الولوج إلى موضوعات الأنثروبولوجيا بشكل يسهل معه من فهم نظمها وانساقها بشكل منظم وعلمي ومنهجي،
قد وضع فيه اساطين هذا العالم أسسه ونظمه وأدواته وأساليبه من أجل التوصل إلى فهم الأنثروبولوجيا بشكل مباشر أوغير مباشر.