أسئلة القلق والبوح الشعري

ثقافة 2021/08/07
...

  ستار زكم 
 
في زحمة الضوضاء وما يكتب في مواقع التواصل الاجتماعي من كتابات يصفها البعض بأنها كتابات شعرية اثرت بشكل كبير على ذائقة المتلقي سلبا وجعلت من البعض أن يحكم على الكتابة الشعرية بأنها استسهال واضح وفي مقدور أي شخص يمكنه انتاج نص شعري معين. وهذا ما جعل النصوص ذات الجودة العالية يصعب فرزها في لجة هذا التراكم الكتابي والمطبوعات التي انتشرت مثل النار في الهشيم. 
وسط هذا الحبر الذي يسيل بغزارة اليوم تبرز بين الحين والآخر علامات دالة وإشارات واضحة نستطيع من خلالها ان نراهن على النص الإبداعي الرصين. ورغم أنني لم اكتب عن الشعر منذ فترات طويلة جدا لكنني أستطيع أن أشير إلى علامة من علامات الشعر (الحمراء) وسط ظلام كتابي ممجوج. 
علامة قد تشعل في داخلك فتيل الرغبة في التمعن بها عن كثب. وهذه العلامة هي القصيدة الشعرية المتميزة التي تجذبك كقارئ إلى حيز الفحص والمعاينة ووضعها فوق طاولة المعنى، كاشفا مزاياها وتفردها الشعري. 
من هذه المقدمة المتواضعة أدخل إلى فضاء الشاعرة بيداء حكمت من أبواب نصها الشعري الذي بعنوان (خربشات على جداري).
ولا أكتمكم سرا أن عنونة النص لم تكن مناسبة إذا ما قورنت بالمتن الشعري رغم تفاعل المفردات الثلاثة للعنوان أعلاه. 
ورغم شيوع المفهوم الذي يعطي أهمية بالغة لعنونة النص والتركيز عليه، ويعد من وجهة نظر العديد بأنه يشكل (نصف النص). إلا أنني اكون ملزما بعض الشيء في الابتعاد نوعا ما عن هذا المفهوم بسبب اهمية المتن الشعري ورصانته، إذ أعطاني مسوغا مقنعا للكتابة عنه عندما وصف (ت. س. اليوت)، (إزرا باوند) بأنه الصانع الأمهر، لم تأتِ هذه الجملة عبثا بالرغم من أن (الجرجاني) قد سبقه بهذا المعنى في كتابه (دلائل الإعجاز) حين قال: لا يكون هناك كلام شعري حتى يكون هناك قصد الى صورة وصنعة. والصنعة هنا تستند الى المعرفية التي يفترض ان يتحلّى بها الشعراء الأفذاذ. 
وعلى حد رأي البعض من أن الشاعر قد يمارس النقد في ذروة التطبيق الشعري. لكن تبقى هذه الفكرة رغم شيوعها منقوصة في هذا الإجراء إلا إذا تزامنت معها المخيلة الجنونية للشاعر التي تسهم في تجليات الرؤى وانبثاق الصورة الشعرية من فوهة النص الشعري. 
ومن هذه الثنائية يبدو أن الشاعرة حكمت بدأت مرتسماتها الأولى في تكوين نصها الشعري من خلال بث صور معينة تعطي لنا ملامح واضحة إلى اسئلة يعتريها القلق والريبة والخوف. 
(إن كان حقا في عميق ذواتنا 
نبع يفيض بماء الأمل
فلِمَ إذن يابسة الأجواف جرارنا؟!).
أود أن أوضح فكرة معينة بشأن هذا الاشتغال الفني، فالسؤال هنا ينطلق من المعرفة/ الصنعة.. هذا السؤال وغيره من الأسئلة المدونة تقف عند حافة عتبة معينة لم تكتمل ملامحها إلا عندما يكون هناك بوح شعري في كل مقطع من المقاطع النصية ويفضي بالنتيجة إلى معانٍ شعرية مكثفة، ويأتي السؤال هنا بوصفه صيغة مكملة لجوانية فكرة النص. 
وهنا يكون (البوح) بمثابة المعادل الموضوعي للسؤال الذي تبثه اعلاه عبر تشكل الصورة الشعرية التي تجيدها الشاعرة بمهارة فائقة، وأحيانا اخرى يأتي السؤال على شكل بوح مكمل يأخذ بك الى اسئلة مخفية.
(حين أحصن نفسي ببدع الصبر 
وابرر لثورة القلب حجج العقل 
وأحزم على ظهر الوهم احلامي 
عاقدة لسان الجواب بحكمة السؤال) 
المفارقة الملفتة للانتباه في هذا المقطع أتت مناسبة جداً في ما كتبته اعلاه، وكأن الشاعرة هنا تتهرب من الأجوبة حين تثير اسئلتها.. وهنا أجد ملمحا واضحا يحيلنا الى أن الشاعرة تكتب بوعي معرفي فهي تعي تماما بأن لا اجوبة في الشعر. 
لأنها تثير جملة من الاستفهامات والبوح الغزير بالشعرية العالية. 
ويبدو أن البوح المكثف انبثق من مخيلة (جنونية) إذ لا شعر من دون مخيلة مجنونة وهذه المخيلة هي التي ترسم الصورة الماتعة وتكتمل جمالية النص الشعري فيها عند كل نهاية عتبة معينة دونتها الشاعرة في مقاطعها الشعرية وفق منوال اثارة اسئلة متغيرة من ناحية الأسلوب الفني. 
المخيلة الجنونية تنتقل بنا إلى عالم متخيل تعكسه الشاعرة على واقع حياتي ملموس. لكن الشاعرة هنا ترى أن هذا العالم المتخيل يكون أكثر صدقا من الواقع المعيش. والمخيلة في هذا الانعكاس الحياتي ربما تتأتى من عطش انساني ينبري للدفاع عن مكتسبات عديدة للحياة حرمت منها الشاعرة والمجتمع بشكل عام. 
(غالبا 
ما أفتح عيني 
على مالم أفكر بأن أراه 
حقا لنعمة البصر ضريبة 
تدعى النقمة). 
إذن نستطيع القول إن الشاعرة بيداء حكمت جمعت بين الصنعة والجنون. والقصيدة الشعرية ترتكز من وجهة نظري على هذين الجانبين في الاشتغال الفني الرصين. اي المعرفة والثقافة الواسعة والدراية بكل ما يحيط بها من حيوات عديدة مختلفة من جانب والمخيال الذي يقفز ويتعدى فواصل السائد المألوف من جهة أخرى.
هذا التشاكل الفني هو الذي ولّد المنحى الحقيقي في صيرورة النص الشعري بهذا الشكل المتفرد، وهذا هو جوهر الاشتغال في هذا النص. 
وفي سياق كل ما تقدم من اشتغال معرفي/ فني لدى حكمت نستطيع أن نبين إشارة واضحة ربما لم تكن في خلد المتلقي أو من قرأ نص (خربشات على جداري) تحديدا. إن الشاعرة في نصها الشعري هذا استطاعت الإفلات من قوقعة الحس الأنثوي كونها متمكنة من ادواتها المعرفية فلم تكن حبيسة ما يسمى بـ (الشعر النسوي) فابتعدت خارج إطار القولبة النقدية التي يتحدث بها البعض، والدليل على ذلك يوجد العديد من الشعراء يكتبون احيانا بحس انثوي داخل فضائهم الشعري. 
وهذا المفهوم الذي ينطبق على اشتغالات الشاعرة يأتي من جملة عوامل مهمة فضلا عما ذكر أعلاه في بداية المقال ان الشاعرة اجادت خاصية التلاعب في اللغة إن جاز التعبير من خلال تطويع وثني المفردة للولوج إلى الانزياحات اللغوية التي تشاكلت مع الصورة الشعرية آنفة الذكر. وهذا ما أعطى النص الشعري تماسكا أكثر ورصانة فائقة على العديد من المستويات الفنية داخل الأطار العام 
للنص.