مظهر محمد صالح
تزدحم اغلب مقاهي الأركيلة في أحياء العاصمة بغداد بفئات عمرية مختلفة، فبين الجالسين في أحد المقاهي في مدينة الشعب صبي لم يتجاوز عمره الرابعة عشر، ومع ذلك يدخن الأركيلة مع أصدقائه في جلسة لعبة الدومينو، فبعد رجوعهم من العمل في ورشة الحدادة، إعتاد هؤلاء الصبية على ارتياد المقهى القريبة خلال فترة استراحة الغداء اثناء العمل ، وليست هذه المقهى الوحيدة التي يرتادها صبية باعمار صغيرة بل هناك عشرات المقاهي التي لا تضع أية ضوابط لدخول الاحداث ، الامر الذي ادى الى سهولة استغلالهم واستدراجهم في تعاطي المخدرات والترويج لها .
يأخذ التراكم الرأسمالي عبر مراحل تطور الرأسمالية وتحولها الى رأسمالية مالية (Financial Capitalism) شكلاً مختلفاً في تحقيق فائض القيمة وتحويله لمصلحة القلة المحتكرة للمال، ذلك عندما يتجاوز سعر الموجود او الاصل قيمته الاساسية بهامش مرتفع (Out of Fundamentals) إذ يطلق على الفارق القيمي (بالفقاعة Bubble) التي هي مجرد فائض قيمة مالي تحت التحصيل. فمن خلال الفقاعة تتضخم أسعار الاصول المالية وتنفصل عن القيمة الاساسية او الاصلية للموجود او الاصل
نفسه.
وتتميز الفقاعات بخصائص في التعاملات يضطرب فيها الشعور بالثقة، ويلي الفقاعة انهيار كبير في اسعار الاوراق المالية وتحول واسع في مراكز المتعاملين المضاربين كافة من مراكز طويلة الى مراكز قصيرة (Short Positions) اي البيع حالاً بسعر عالٍ مبكر جداً من اجل شراء الموجود المالي مستقبلاً بسعر منخفض.
وبعيدا عن ما حدده عالم الاقتصاد المالي Minsky لمراحل الفقاعة بين التحول والطفرة والنشوة في جني الارباح ثم الذعر او مايسمىMinsky moment وهي الفترة الحاصلة بين مطلع انهيار اسواق المال والدخول في الأزمة المالية بعد التمدد الكبير والاسترخاء باسعار الاصول المالية وعلى نحو غير مستدام، فإن سريان الازمة المالية لايعني سوى تعظيم فائض القيمة وتدويره لمصلحة المضاربين اليقظين ونهب المالكين الضعفاء (ولاسيما ممن لايملكون المعلومات الكافية في سوق المستقبليات) بالتحول فوراً الى اتخاذ مراكز قصيرة بدلاً من التمسك بالمراكز الطويلة لينتهي الامر الى تراكم رأسمالي حاد لمصلحة القوى الاكثر دراية بوضع السوق وتجير الازمة المالية لمصلحة كبار
المضاربين.
وهكذا نجد ان ثمة تلازما مباشرا بين فقاعات السوق المالية وبين حصول الازمات الحادة في أسواق رأس المال (وما تسببه من خسائر في قيمة الاصول الراسمالية) من جهة وبين تزايد التراكم الراسمالي وتعاظم الاصول المالية لعدد من الاثرياء في العالم من جهة أخرى، ومن ثم توليد جيل من الرابحين الاثرياء عبر توليد تراكم راسمالي متسارع من "رأس المال
المالي".
فَمثل المضاربين المستغليِن مثل تجار الحروب ولكن ادوات حربهم تختلف هنا في خضم حروب الهندسة المالية للقرن الحادي والعشرين، فقد ظهرت في نهاية تسعينيات القرن الماضي أعداد كبيرة من المشاريع الناشئة لقطاع تكنولوجيا المعلومات والتي تفتقر الى أنموذجها الربحي Business model وطرحت أسهمها للاكتتاب محققة الملايين من الدولارات بسرعة لارتفاع قيمة موجوداتها او اصولها السوقية إلّا ان نمو كلف التسويق والكلف التشغيلية المختلفة التي لاتتناسب ونمو الطلب على منتجاتها قادت جميعها الى خسائر كبيرة كانت ضحيتها اسهم شركات المعلوماتية والتي اطلق عليها في حينه بفاقعة تكنولوجيا المعلومات او فقاعة
الدوت-كوم.
ويلحظ انه بالرغم من تداعيات تلك الازمة المالية الا ان أعداد الاثرياء في العالم قد تزايدت وتيرتهم من 470 ثرياً في العام 2000 وبثروة صافية قدرت بأقل من 1 تريليون دولار لترتفع أعدادهم في العام 2002 الى نحو 497 ثريا وبثروة صافية زادت على واحد ونصف تريليون دولار، في حين ابتدأت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة في العام 2008 والتي فقدت الاسهم والاصول المالية الاخرى قرابة 25 بالمئة من قيمتها، إذ قدر مجموع الاصول الخاسرة في اميركا حينها بنحو 3,9 تريليون دولار، نجد مقابل ذلك تزايداً في عدد الاثرياء من 1125 ثرياً ابان نشوء الازمة في 2008 وبثروة شخصية قيمتها بنحو 4 تريليونات دولار ليصبح عددهم بعد ثلاثة أعوام بنحو 1210 أثرياء، بلغت ثروتهم الصافية بنحو لامس 5 تريليونات
دولار.
اما اليوم فالعالم الراسمالي كله على ابواب ازمة مالية محتملة وعدد الاثرياء قد زاد على 2208 أثرياء، وبثروة صافية هي اكثر من 9 تريليونات دولار ذلك حسب تقديرات مجلة فوربس المالية الامريكية الصادرة في أذار الماضي 2018، (وهي المجلة المهتمة مع التقرير السنوي لمصرف كريدت سويس بتقدير ثروات الافراد والعائلات الغنية في العالم على التوالي) نجد بالمقابل تقديرات مؤلمة قامت بها مؤسسة اوكسفام البريطانية (وهي المنظمة المهتمة بشؤون المساعدات الانسانية في العالم).
اذ قدرت المنظمة المذكورة أن نسبة مقدارها 1 بالمئة من اولئك الاغنياء المشار اليهم آنفاً، امست ثرواتهم على نحو يعادل نصف مجموع ثروات الناس في العالم اجمع. وان ثمانية اشخاص من اولئك الاثرياء وحدهم -كما تقول اوكسفام - يمتلكون اكثر من نصف ما يمتلكه الفقراء من سكان الكرة الارضية.
ختاماً، ستنتهي الازمة المالية العالمية القادمة (ان قدر لها ان تبدأ في العام 2020) بتوقع تزايد اعداد الاغنياء في العالم في سنة 2024 بما لايقل عن 4000 ثري وبثروة صافية ستزيد على 20 تريليون دولار، وان خمسي اولئك الاثرياء الجدد ستحتضنهم الولايات المتحدة الاميركية في الغالب.
وهكذا فستظل الازمات المالية تولد اثرياء بلا حدود عبر تراكم راس المال المالي القائم على نهب فائض القيمة بعد تدويره في فقاعات السوق
المالية.