تخطي الحسيات إلى أفق الرؤيا في «ما يفسره البياض»

ثقافة 2021/08/08
...

  علوان السلمان
 
الخطاب الشعري الذي هو تفاعل الخارج والداخل والصراع بينهما مغامرة فنية وجمالية ينسج عوالمها منتج واع بتعابير عميقة الفكرة مزدوجة المعنى.. تعتمد التكثيف والانزياح اللفظي الخالق للجمل الشعرية المتعالقة والسياق الاجتماعي والنفسي.. بامتلاكه قدرة مشحونة بدلالات انسانية مترصدة لوهج الانفعالات مع استلهام المتناقضات التي تمتد على امتداد خارطة الجسد النصي.
وباستحضار المجموعة الشعرية (ما يفسره البياض) وتأمل عوالمها بنصوصها الشعرية والصورية القصيرة جدا التي نسجتها انامل منتجها سلام البناي الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/2021.. كونها نصوص تتخطى الحسيات الى افق الرؤيا بمخاطبة الوجدان الجمعي بلغة الفكر مع جنوح صوب الاختزال الجملي للتعبير عن اللحظة الانفعالية، فضلا عن اعتماد الشاعر تقنية الانزياح اللغوي الذي ينقل المتلقي إلى افق تصويري ايحائي جاذب ومستفز للذاكرة.. ابتداء من الايقونة العنوانية والعلامة السيميائية التي 
شكلت على مستوى الدال نسق لغوي بفونيماتها الثلاثة جملة فعلية دالة على الحركة بما تحمله من طاقة ايحائية تشد المتلقي للولوج في عوالم النص واستنطاقه وحل شفراته: (ذات ليلة حدثتني.. كيف تستفيق معها.. عيون النخيل/ وهي تختفي مثل نجمة.. يطاردها الفجر/ لتشطب 
الجوع بمحراث مواسمها/ وتصوغ لنا من سنابل شعرها تيجان الرغيف). 
فالنص يعتمد الحكائية السردية استهلالا يحمل دلالات رومانسية خافتة وإيماءات قابلة للتأويل، لان المنتج يرسم دالته بإشارات مستفزة لذاكرة المستهلك وتحثه على تحريكها للكشف عن ماهيته وجوهره، فضلا عن انه يعكس بمجمل دلالاته الحالة النفسية والشعورية بعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبه الجملية المترجمة لمشاعر واحاسيس الشاعر وانفعالاته ببناء درامي وحوار ذاتي.. باعتماد مفردات يومية بعيدة عن الضبابية والغموض، قريبة من الواقع الاجتماعي ليمنح  متلقيه متعة الشعر ولذته من 
جهة ومنفعته الجمالية من جهة أخرى:
(حاصرني الحلم.. وتلقفتني المحطات المحترقة من الخوف/ لا أحد يأتي إلي برائحة المدن المرتعشة في الذاكرة/ لا أحد يمنحني جدارا يسد علي هربي/ ويطلق أنفاسي بعناق يطول../ لا أحد.. ليس في الرمال إلا العبث وبراعم تحترق من الهلع/ ليس في المدينة غير ابواب تنحني عليها دموع الامهات/ كل المحطات المقبلة/ لا أحد منها يعود...لا أحد). 
  فالخطاب الشعري يشكل نسقا جماليا يكشف عن اغتراب ذاتي ويخلق صورة تختزن الوجع الوجداني بالفاظ موحية وعبارات مكثفة وسعة خيال تتأسس على الاضاءة وبناء متنامٍ واسترسال يفضي بانتاج صوره التي تعتمد التفاعل بين الفكرة والرؤية.. مع اهتمام وتركيز على التراكيب الجملية الموحية.. المتعالقة ونبض النص النفسي كي يمنحه تصعيدا فنيا وجماليا... مع اقترابه من الحكائية بتدفق وجداني ينبثق من مركز دائرة الوعي الشعري الذي تؤطر عوالمه الصورية والدلالية تقنيات فنية واسلوبية كالتكرار الدائري الدال على التوكيد والذي يحمل في جنباته دلالات نفسية وانفعالية تفرضها طبيعة السياق، فضلا عن اضفائه جمالا فنيا وثراء دلاليا وايقاعا مموسقا.. فضلا عن توظيفه المكان الكيان الاجتماعي المتحول بتمظهرات متفاوتة.. تحتضن خلاصة التفاعل بين الانسان ومجتمعه.. فضلا عن تقنية التنقيط التشكيل النفسي 
الدال على المحذوف من القول والمسكوت عنه والذي يستدعي المتلقي للاسهام في ملء 
فراغاته: (كل جنوب يمضي حجرا في القاع/ غريب جنوبنا.. 
وحده متيقن/ ان القمة مثواه الأخير). 
فالنص يتأسس على 
الاضاءة الفنية الجمالية الخالقة لحقلها الدلالي المتسع الرؤى باعتماد العبارة الموجزة 
العميقة المعنى، والتي تمتلك حسا وجدانيا متوهجا.. وبذلك قدم الشاعر نصوصا مكتنزة بمدلولاتها المنسوجة نسجا رؤيويا ترقى من المحسوس الى الذهني المتخيل. بلغة لا تنحصر في اللفظ بل في الفعل الشعري الذي يجسد الحالة السايكولوجية في تعاطي مفردات الحياة 
اليومية.