السمكة الذهبيَّة: رواية الهويات الهاربة

ثقافة 2021/08/08
...

  رشا الربيعي
حينما يكون التيه بوصلة حيواتنا والتشرّد هو المأوى فآنذاك لا يمكننا أن نسمي ما نعيشه حياة، فكيف بمن تفنن في خلق حياة له وللآخرين وأجاد في رسمها حسب تجربته البسيطة وفكره المحدود رغم ما قاساه من ألم وضياع التشرّد؟.
(السمكة الذهبية) رواية للكاتب الفرنسي (جان ماري لوكليزيو) هي رحلة في البحث عن الوطن المجهول والذات المشوّهة، رواية عن أحلام المهمشين الضائعة، المنسيين أولئك الذين لا يذكرهم التاريخ ولكنهم يسهمون في حدوثه، رواية عن الأسى اليومي الذي صار ديمومة حياة. لوكليزيو الذي وصفه بيان الاكاديمية الملكية السويدية بأنه: «كاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية ومستكشف بشرية ما وراء الحضارة السائدة».
كاتب وروائي فرنسي من مواليد أبريل 1940 حاز على جائزة نوبل للآداب عام 2008، الكاتب الذي قلّما تحدّث عن نفسه، الشغوف بالآداب وحبها، قال خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد بدار «غاليمار» للنشر احتفاءً بفوزه بهذه الجائزة العريقة: «إن المطالعة أهم وسيلة للاستمرار في مخاطبة العالم الحديث، فالأديب ليس بفيلسوف وإنما هو شخص يؤلف ويسأل».
 تعتمد أحداث الرواية على تقنية السارد الذاتي الذي تمثّله (ليلي) أو (ليلى)، وهي فتاة مغربية تعود أصولها إلى (بني هلال) حيث الجنوب المغربي، وقد تمت سرقتها من هناك وبيعت بثمن بخس إلى سيدة يهودية من أصول إسبانية، مقابل أن تقوم (ليلى) ذات السبع سنوات بخدمة (السيدة أزيما) والتي أطلقت عليها ربيبتها في ما بعد مسمى آخر (لالا أسمى) و (لالّا أو لالة أو للا) هي لفظة أمازيغية للتوقير والاحترام وتقال للنساء وتعني سيدتي أو مولاتي بينما رفضت السيدة (لالا أسمى) مناداتها بذلك الأسم وطلبت منها أن تناديها معلمتي. لأنها هي من أشرفت على تعليم (ليلى) اللغة الفرنسية والإسبانية قراءة وكتابة، وتعليمها الحساب الذهني والهندسة وأعطتها بعض أصول ديانتها اليهودية وكانت تقرأ لها مقاطع من الكتاب المقدس. 
كانت حياة (ليلي) تسير باتجاه هادئ وإيقاع بطيء في (بيت الملاح) سوى بعض المضايقات من (زهرة) كنة (لالا أسمى) و(عبل) أبنها الكبير وزوج (زهرة)، إذ حاول في إحدى المرات اغتصاب الطفلة مستغلاً غياب والدته الوقتي عن البيت. ليلي ذات الاثني عشر ربيعاً التي لم ترَ الشارع منذ اختطافها إذ فقدت السمع بإحدى اذنيها جرّاء اصطدامها بسيارة مارة، وجدت نفسها بين ليلة وضحاها تدور في شوارع المدينة بعد وفاة معلمتها، وحيدة حتى من دون قرطيها اللذين يحملان شكل هلال وهو إرثها الوحيد الذي تبقى لها من قبيلتها، جرت مسرعة حتى فندق الأميرات، ذلك المسمى الذي اطلقته على فندق تقطنه مجموعة من النساء التائهات اللواتي لم يجدن لهن مأوى أو عملاً يسد رمق جوعهن سوى البغاء، ومن هنا تبدأ رحلتها مع ما نسميه تشرداً وما يعني لها حرية أو حياة.
قدم لنا الروائي نماذج نسوية مختلفة من اللواتي ربما نلتقيهن في الشوارع، المقاهي، باصات النقل العام فنتجنب تبادل الحديث معهن أو حتى الوقوف قربهن لأن منظرهن الخارجي يخالف طبيعة المسطرة المجتمعية، ولكن ماذا عن حقيقتهن التي تختبئ خلف وجوههن؟، وكيف لنا أن نسامح أنفسنا ونحن نقف أمام مرآة أرواحنا وقد تسببنا لهن بألم الإقصاء المجتمعي؟، فلم نكتفِ بالصمت الذي تلبّسنا ونحن نشاهدهن يسرن في دروب الضياع، بل ساهمنا في عزلهن بغيتوهات يطوقها الدين والعرف الاخلاقي وعادات مجتمعاتنا البائسة.
الأميرات ومسؤولتهن (جميلة) يشي مظهرهن كما وطبيعة عملهن بالعهر ولكن موقفهن الإنساني مع (ليلي) يشي بغير ذلك تماماً، فحالما وصلت الفندق استقبلنها بحفاوة وحظيت برعايتهن، لم يطالبنها بشيء سوى أن تحافظ على نفسها وتهتم بدراستها ومستقبلها بعيداً عن القاع الذي يسكنن به، رأت كل واحدة منهن فيها حلمها المنسي فأرادت لها (تغريدة) أن تكون مهندسة أو طبيبة بينما تكفّلت حورية وقبلها جميلة بتكاليف دراستها، (حورية) التي تعيش تحت وطأة الخوف من ملاحقة زوجها السكير ورجاله لها كانت رفيقة هجرة (ليلي) غير الشرعية إلى باريس، مدينة الأنوار التي أسهمت في إطفاء روح الطفلة ومثلها العديد من الحالمين بالحياة في مدينة الحريات المزيّفة.
عرّى (جان لوكليزيو) في روايته (السمكة الذهبية) زيف مدينة الأنوار وكشف الغطاء عن دعاة حقوق الإنسان عبر سير بطلته في شوارع باريس والعيش في أزقتها المنسية، تلك الأزقة التي يقطنها المهاجرون غير الشرعيين ضحايا الكولونيالية والحكومات السيئة التي خلّفها الحكم في مستعمراتها السابقة، تمسكّت (ليلى) بالحياة ورغم صغر سنها مارست أكثر من مهنة ساعدتها على إعالة (جميلة) في فترة حملها بابنتها، فكشفت لها الحياة أوجهاً مختلفة لم تعرفها من قبل وعانت الصغيرة من الفقر والجوع لشهور عدة كما ولاحقتها الشرطة الفرنسية في وسائل النقل لكونها لاتملك أية هوية أو تصريح رسمي لبقائها في فرنسا، نامت لليالٍ عديدة بين الأنقاض وتحت الجسور وأقبية الكراجات ولم يبعدها ذلك عن حلمها بالحياة ورغبتها في سبر أغوارها. ساعدها (حكيم) ذو الأصول الأفريقية في الدراسة والتقديم للبكالوريا كطالبة حرة ولكنها فشلت باجتياز الاختبار، تعلمت العزف والغناء على يد (سيمون) إحدى العازفات في المحطات (سيمون) التي آوتها لفترة في منزلها كانت عبدة رغبات عشيقها (مارتينال) الذي كان سادياً وقادها ذلك العذاب الاختياري إلى الإدمان على تناول المسكنات والحبوب المهدئة، أو ليس من يعتاد الظلمة قد لا يرغب في الضوء يوماً؟ 
قدّم المحارب الفرنسي/ الأفريقي جد (حكيم) لليلي هدية قيّمة عبارة عن جواز سفر حفيدته المتوفاة، ليتغير اسمها في ما بعد إلى (مريم)، سافرت إلى نيس حيث يقيم خال الفتى (خوانيكو) في إحدى المخيمات واعتادت مع مجموعة من الفتيات والفتيان على البحث في مكبّات النفايات عمّا يسمّوه بالمقتنيات «كراسي بثلاثة أرجل، أواني طعام مثلّمة، كتب دون أغلفة...» ثم قرَّرت فجأة الرحيل إلى الولايات المتحدة الأميركية واستقرت في منزل مغنية البارات الأميركية (سارة) في بوسطن مع صديقها (جوب)، وحين حاول الأخير التحرش بها في غياب صديقته اضطرت إلى الانتقال مجدداً إلى شيكاغو برفقة (جان فيلان) لتعمل على تنظيف الغرف وغسل الصحون في أحد الفنادق، (جان) الذي سيتسبب في ما بعد في حملها بطفلها، وبعد سلسلة من التنقلات المتواصلة والمرهقة تحطّ رحالها في كاليفورنيا وتتعرف على (ندى) في المشفى بعد أن تركها صديقها سيء الطباع (بيلا) تحتضر وحيدة، ساعدتها (ندى) على التشافي ومن ثم السفر مجدّداً إلى فرنسا بعد أن وجهت لها دعوة لحضور مهرجان جاز في مدينة نيس بواسطة السيد (ليروي) الذي حذرها مراراً من (بيلا).
أوليس من أعتاد الظلمة قد لا يرغب في الضوء يوماً؟
تعتذر عن حضور المهرجان وتخرج من الفندق إلى الشوارع هائمة، تائهة من دون ملجأ أو مأوى فقد شهدت تحطم الحلم الأميركي أمام عينيها ومسبقاً زيف مدينة الأنوار لتعود إلى حيث ضياعها الأول (جنوب المغرب) إلى قبيلتها بني هلال حيث تمت سرقتها هناك من أمام منزلها علّها تجد الأمان أخيراً.