أجمعَ النقاد على أنَّ المسرحيَّة صالحة لكل زمان ومكان «فيلم أميركي طويل».. صورة مصغرة للمجتمع اللبناني

منصة 2021/08/08
...

 عفاف مطر
«فيلم أميركي طويل» هي إحدى مسرحيات زياد الرحباني، يجمع النقاد على أنها صالحة لكل زمان ومكان، المسرحية تستعرض حياة شخصيات تتسم بالظرافة والجنون اجتمعت بمصح عقلي، صورة مصغرة للمجتمع اللبناني وتعكس الواقع، واقع بعض المسيحيين والمسلمين اللبنانيين الذين اضطروا أنْ يتشاركوا مساحة من الأرض لأنهم لم يتمكنوا من الهجرة أو اللجوء، وذلك ابان الحرب الأهلية اللبنانية، ويمكننا إسقاطها على كل مجموعة متنوعة تتشارك أرضاً واحدة لكنها لا تتشارك ذات الأفكار، سواء كانت أفكاراً سياسيَّة أو وجهات نظر أدبيَّة أو معتقدات فكريَّة.
«فيلم أميركي طويل» هي إعلان حالة حرب مجنونة وغير مفهومة، هذا بالطبع من وجهة نظر صاحبها زياد الرحباني، الذي حول المجتمع اللبناني بكليته الى مجانين ساخراً من جنونهم واختلالهم النفسي، إذ كل طرف أو شخصيَّة في المسرحيَّة تعتقد أنها مستهدفة من الطرف الآخر وتعيش على هذا الاعتقاد حتى تتآكل تماماً وتطلق الوحش الكامن في داخلها والذي بطبيعة الحال وككل الوحوش تعتاش على مشاعر الخوف والغضب والشك، فضلاً عن الحاجة الملحة لإثبات أنها الأقوى.
شكلت هذه المسرحية صدمة لللبنانيين ذلك أنهم قبل الحرب الأهلية (الإسلاميَّة – المسيحيَّة) كانوا يعتقدون أنَّ الفلسطينيين والسوريين هم أعداؤهم، لكن هذا تغير وبسرعة بعد نشوب الحرب الأهلية، إذ فقدوا الثقة بأنفسهم وصاروا يعادون بعضهم بعضاً.
ولدت مسرحية «فيلم أميركي طويل» في خامس عام للحرب الأهلية، في فترة ضبابيَّة كانت تعيشها بيروت الغربيَّة، التي تحولت فيها الصراعات بين الجبهات السياسيَّة الى مواجهات دامية ضمن المعسكر الواحد، بين اليمين اللبناني واليسار. وقد اختار زياد الرحباني المصح العقلي بيئة لمسرحيته، لأنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف أي لبناني من مع من ومن ضد من؟ كان الوضع حينها حقاً أشبه بالمصح العقلي، أناس تخرج فجأة من الخنادق والكل يتحدث عن المؤامرة، والكل يسأل ولا يعرف ما هي المؤامرة ولا من وضعها؟ ويظهر ذلك جليّاً من الحوار الذي يدور بين الممرضة وأحد المجانين حين يسألها عن المؤامرة، وتعجز الممرضة العاقلة المسؤولة عنه أنْ تجيبه فتكتفي في أنْ تخبره أنَّ المؤامرة أكبر من أنْ تُفهم.
 
لماذا تحاربنا من الأساس؟
ويعلق زياد الرحباني في أحد اللقاءات التلفزيونيَّة عن هذا الأمر، إذ يقول: «إنَّ اللبنانيين لم يعرفوا لمَ قامت الحرب، وكيف توقفت فجأة؟ وما هو الاتفاق الذي عقدته الأطراف المتنازعة حتى يتوقف إطلاق النار؟».
في آخر المسرحيَّة يتم تلقين وتحفيظ المجانين أنهم أخوة ومتحابون ويتشاركون المصح والمصير، وهو ما كانت تذيعه وسائل الإعلام التابعة لليمين واليسار، لكنْ من ضمن المجانين هناك اثنان من مدمني المخدرات، هما فقط من بقيا يسألان: ولماذا تحاربنا من الأساس؟ ولماذا أوقفنا هذه الحرب؟ زياد الرحباني لم يكن ينتقد الأحزاب السياسيَّة والتشكيلات الأخرى بقدر ما كان ينتقد المواطن الذي أنجرَّ الى هذه الحرب حتى من دون أنْ يفهم دوافعها وأهدافها. زياد الرحباني لم يكن يحلل عبر هذه المسرحيَّة ولا في أعماله اللاحقة الواقع السياسي والاجتماعي، وإنما كان يسخر ويعلق فقط.
لكنْ لماذا اختار زياد رحباني (فيلم أميركي طويل) عنواناً لمسرحيته؟ هناك عدة إجابات؛ هناك من فسر أنَّ زياد الرحباني هو ابن الجيل الستيني، هذا الجيل كان معتاداً على السهرة التلفزيونيَّة والتي كانت إما فيلماً عربياً طويلاً، أو فيلماً أميركياً طويلاً، وهناك من فسر أنَّ العنوان مستمد من فكر زياد الشيوعي الماركسي المناهض للرأسماليَّة الأميركيَّة، الفكر الذي يرمي بكل المصائب في ملعب أميركا، مثله مثل كل الشيوعيين في وقتها، ويؤكد هذا الرأي أو التفسير أنَّ المتابع لأعمال زياد يعرف سريعاً أنه مؤمن بأنَّ أميركا هي من تدير العالم باصبعها، فلا يمكن لبناية في بيروت أنْ تقع من دون مخطط أميركي؛ لكن في المسرحية - وهو الأمر الغريب - تأتي أفكار زياد على لسان مجانينه، فهناك من يقول إنها مؤامرة عربيَّة، وهناك من يقول إنَّها مؤامرة فلسطينيَّة.. الخ.
 
أجوبة صالحة
لم يعطِ زياد جواباً شافياً، وكأنَّ كل الأجوبة صالحة للسؤال الرئيس؛ من الطرف المسؤول عن الحرب الأهلية اللبنانيَّة؟ أو الأجوبة مجتمعة صالحة للإجابة. تسجيلات زياد كانت تُهرب بين بيروت الشرقيَّة وبيروت الغربيَّة وكانت تذاع مقتطفات منها على إذاعة صوت لبنان، فتتصل السفارة الأميركيَّة بالقصر الجمهوري اللبناني، ومن ثم يتصل وزير الاتصالات وقتها جوزيف الهاشم ليتم استدعاء جوني الصديق ويتم تخييره بين البقاء في الإذاعة شرط ألا تذاع تسجيلات من مسرحية (فيلم أميركي طويل) لزياد وبين الرحيل عن الإذاعة إذا أصرَّ على بث مقاطع من المسرحيَّة. على الرغم من عبقرية زياد في خلق كاريكاتيرات مميزة في المسرحية، إلا أنه حين تظهر شخصية رشيد التي يمثلها زياد بنفسه تختفي كل الشخصيات مهما كانت ساطعة، فمسرح زياد بالإضافة الى أنه مسرح نص فهو أيضاً مسرح كاريكاتير. شخصية رشيد كانت كوميدية إلا أنها أنشأت قاموساً كان وما زال متداولاً بين شباب ذلك الجيل والذين بقوا أحياءً حتى يومنا هذا، مثل (راسو معقوف لكن بيفرد، أو صابوني وغيرها) مفردات يمكن فهمها على أكثر من وجه في مظهرها كوميدي لكن في باطنها سياسي، ولأنَّ شخصية رشيد التي لعبها زياد، تمثل الطبيب والمجنون في الوقت ذاته، راح بعض النقاد الى عكس كل ما ذكرناه سابقاً، إذ إنَّ رشيد يريد أنْ يمارسَ عملية تطهير عبر جمع كل المجانين في مصح عقلي (معتقل) والتخلص منهم. ولأنَّ زياد من أشد المعجبين بستالين، فهو يؤمن بضرورة القائد أو فكرة المخلص.
بيني وبينكم إنَّ كان هذا أو ذاك لا شكّ أنَّ زياد الرحباني عبقري قلّ مثيله، وقد قدم خدمة للطرفين، اليسار واليمين.