الفيلم السعودي «حدّ الطار».. مفارقات الواقع وخيارات الحب

الصفحة الاخيرة 2021/08/08
...

  خالد ربيع 
 ينتمي فِيلْم «حد الطار» السعودي إلى سينما الواقعية الكلاسيكية؛ تلك التي تلتقط مفارقات دقيقة من حياة واقع المجتمع وتنقلها في دراما مؤثرة إلى الشاشة الكبيرة. إذ إن قصة الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية جرت على مرأى ومسمع من المخرج عبدالعزيز الشلاحي في أحد أحياء مدينة الرياض، فرواها للكاتب مفرج المجفل، الذي كتبها لتصبح هذا الفيلم الرائع.
 
الحُب والتقاليد الاجتماعية
يصوّر «حدّ الطار» قصة حُب بين ابن سيّاف ينفِّذ أحكام الإعدام في المذنبين، وابنة طقّاقة (مطربة أفراح شعبية) تستخدم الطار أثناء غنائها وتطق عليه (تطبل)، لذلك تسمى طقاقة بحسب التسمية الشعبية، ابنة الطقاقة وابن السياف شخصيتان نجدهما في الأحياء الشعبية في مدينة الرياض، عاصمة السعودية، ولأنه لا يمكن للخيال أن ينحتهما بهذه الدقة والمفارقة في التناقض بين الشخصيتين وعوالمهما، فإن المخرج الشاب لامس هذا التناقض المحيّر ليعبر به عن تحوّلات اجتماعية لا تخلو من الغرابة. وعنوان الفيلم بحد ذاته يعبّر عن مفارقة ملحوظة بين تنفيذ حكم الإعدام (الحدّ) وروح الفرح المتمثل في الطبل (الطار).
وهكذا يطرح الفيلم جدلية الاستسلام لسطوة الحُب والتمسك بالتقاليد الموروثة، وما إذا كانت هذه التقاليد يجب أن تبقى سيدة الأعراف والأحكام في عالم يتغيَّر ويتطوَّر ويتبدَّل باستمرار. وهي جدلية ناقشتها السينما المصرية منذ الأربعينيات وحتى الستينيات في أفلام كثيرة، نذكر منها «ليلى بنت الفقراء» على سبيل المثال، وغيره كثير من الأفلام التي طرحت هذه المسألة وتأثيراتها في الحياة. لا سيما أن الموروثات الاجتماعية والثقافية تفرض خضوعاً خاصاً يحيل إلى ثقافة المجتمع. وهنا تكمن الثنائية المتناقضة: بيع الفرح مقابل شراء الموت! هذه الازدواجية هي عمق آخر جدير بالحفر فيه، وهي ما يحرك عالم قصة الفيلم. 
من جهة أخرى فإن الحبيبين (دايل وشامة) هما في الأصل رجل أبيض وامرأة سمراء، لما في السياق العنصري من تأثير في ثقافة المجتمعات الشعبية حول المصاهرة بين العرب البيض والوافدين المستوطنين السود، وفي ذلك ما قد يستوقف البعض ويرونه مستهجناً، فدايل من أصل قبلي بدوي، إذ اسمه يشير إلى ذلك، وشامة من أصول أفريقية وافدة منذ قرون الى هذه البيئة النجدية، لكن النظرة تظل راسخة عند كلا المجتمعين، إضافة إلى أنهما شخصان ينتميان إلى شريحتين اجتماعيتين مختلفتين. لكن الحب لا يبالي بالتصنيف الفئوي ولا الطبقية الاجتماعية، حسبما يظهر في القصة التي كتبها المجفل.
 
حُب محفوف بالصعاب
قصة حُب بين «دايل» و»شامة» ودايل هو ابن سيّاف، لا يرغب في أن يرث وظيفة والده الموظف في دائرة الحقوق والقصاص، حيث ينفِّذ أحكام القتل أو الحرابة بالسيف في حق مَن صدرت بحقهم الأحكام الشرعية.. وشامة هي ابنة طقاقة تغنِّي في الأفراح الشعبية. لكن عم دايل والمسؤول عنه بعد وفاة والده يرفض هذا الحُب، ويقف عائقاً أمام هذه الزيجة لرغبته في تزويج دايل من ابنته، ويستخدم لهذه الغاية الضغوط المالية على دايل وحرمانه من ميراث جده بالشرع والقانون؛ نظراً لأن والد دايل توفي قبل جده وبالتالي، لا يحق له شرعاً الحصول على ميراثه.
وتتصاعد الأحداث. فصحيح أن شامة تُظهر مشاعر الود لدايل؛ لكنها لا تتوقف عن التفكير في من تحب، وهو ابن خالتها المتهم في قضية قتل. فأسرتها لا تستطيع دفع الدية (الغرامة النقدية) اللازمة لإنقاذه. ويتواصل تصاعد الحبكة بصورة دراماتيكية محكمة؛ خصوصاً أن دايل يفترض حال موافقته على الوظيفة التي سيرثها عن والده، أن يكون هو المسؤول عن تنفيذ الإعدام على ابن خالة شامة.
وهكذا فالمطلوب من ابن السياف أن يكون سيافاً مثل والده وإلا يحرم من ورث أبيه، ويطرد من البيت الذي يسكنه كونه رجلا أعزب يعيش في حي سكني للأسر، ومطلوب من بنت الطقاقة أن تتعلم العزف وتساعد أمها في حفلات الزواج.
وتحدث تطوُّرات متسارعة للأحداث ونهاية غير متوقعة، ولكنها معبِّرة عن جوهر قصة الفيلم. فالأحداث قدَّمت صورة لما كان للمغالاة في التشدُّد من آثار على الحياة الاجتماعية خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، ليس أقله نظرة المجتمع الدونية إلى العاملين في مجال الموسيقى والغناء، بما في ذلك تقديم النساء موسيقاهن وأهازيجهن في المجالس النسائية المعزولة تماماً عن عالم الرجال والمكرسة في الأفراح النسائية فقط.
 
الثأر لا مناص منه
من ضمن القضايا التي ناقشها الفيلم من دون إسهاب أو تطويل؛ ما يتعلق بمسألة «الثأر». فالأسرة فقيرة، ولو كانت تحظى بوفرة المال لاستطاعت إنقاذ ابنها من الموت بدفع الديّة. كما يلقي الفيلم بضوء خاطف على الاستغلال السيئ للتشريع والقانون سواء باستغلال العم مسألة الميراث للضغط على ابن شقيقه، أو احتمال أن يتحوَّل دايل إلى سيَّاف كي يقطع رأس مَن تحبه الفتاة التي أحبها.
كيف تحولت الشخصية الرومانسية العاشقة لشخصية تتخلى عن كل طموحاتها وأحلامها وتجد في القصاص والعمل كسياف حلاً وهروباً مما يعانيه ويكابده في قصته مع شامة.
لا يفوت المتفرج الاستغراق في ذروة المشاهد التي أداها «فيصل الدوخي» أو دايل باقتدار، وتمكن وكانت تلك المشاهد الصامتة التي لم ينطق فيها كلمة واحدة، وجها صارما حزينا وغاضبا تدفق منه اللوعة والأسى، عينين مقهورتين، مغبونتين على مصير لم يتوقعه، نظرات تخبئ داخلها العديد من المشاعر والعديد من الأحاسيس المؤلمة، كانت عيناه مليئة بالحيرة والضياع والشعور بالخسارة المصيرية لفقد حبيبته شامة.
 
صدق فني
شارك في تمثيل الأدوار الرئيسة في الفيلم فيصل الدوخي وأضوى فهد، وأدَّى الاثنان دوريهما باقتدار وتلقائية وجعلا من أدائهما تقمصاً بالغ الاحترافية، رغم أنهما يمثلان للمرَّة الأولى. وهذا ما يشي بالاستعداد الفطري وبتجويده عن طريق التدريب والاستعداد النفسي والتهيئة الأدائية المركزة. كما ساندهما بالقدر نفسه من حسن الأداء كل من سامر الخيال، ندى الشهري، هاشم هوساوي، عجيبة الدوسري، راوية أحمد والفنان القدير علي إبراهيم. وهذا الاختيار من الممثلين وحملهم على الأداء بهذه التلقائية والتقمص يخلق توازناً، ضمن للفيلم صدقيته الفنية.
نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصة «صلاح أبو سيف» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2020م. كما حصل الممثل السعودي فيصل الدوخي على جائزة أفضل ممثل عن الفيلم نفسه. كما توّج مهرجان أفلام السعودية في دورته السابعة 2021 الفيلم بالنخلة الذهبية كأفضل فيلم طويل في المهرجان.
الفيلم هو التعاون الرابع بين الكاتب مفرج المجفل والمخرج عبدالعزيز الشلاحي، وأثمر هذا التعاون فيلماً مُخرَجاً ومنتجاً وممثلاً بشكل رصين في 80 دقيقة، تكاملت فيها حبكته لتصوغ من السيناريو الخاص به فِيلماً جديراً بالمشاهدة والتقدير، أخلص له المنتج المصري أحمد موسى، واستعد له فريقه خلال ثلاث سنوات بما يكفل له التنفيذ المرموق.