النسق الثقافي وذكرى الغزو

آراء 2021/08/08
...

  علي كريم خضير 
 
يعدُّ الغزو من الظواهر التي اتصف بها العرب أيام الجاهلية. وقد دلّلت أشعارهم على التماهي مع هذه الظاهرة حدَّ الارتماس. فهذا شاعرهم دُريد بن الصِّمّة يقول:
وما أنا إلّا من غزيّة إن غوتْ
غويتُ، وإنْ ترشد غزيّة أرشدِ
وظلّت هذه الفكرة تسيطر على أذهان وعقول العرب حتّى مجيء الرسول محمد (ص) برسالته السماوية السمحاء التي وحَّدت القبائل العربية المتناحرة، وجعلت منهم أمةً كبيرةً نشرت لواء الاسلام، وأسست لإمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف بلغت حدودها الصين شرقاً، وجنوب فرنسا شمالاً. احتلّ الفكر الإسلامي فيها موقعاً متقدماً في سلّم الفكر العالمي. بل أصبحت بغداد قبلة الوفّاد من جميع أنحاء المعمورة في العصر العباسي. ولا ريب أن الأمم والبلدان إذا لم تضع لمنجزها الحضاري خطّةً لعدم التراجع، والاصرار على التفوق والنجاح فإنّ مصيرها سيغدو في مهب الريح لإسرافها في تجاهل العلم والعلماء، والشخصيات الحريصة على تقدّم البلاد. وهكذا دبَّ الخور والفتور في الدولة العربية، فتمزقت أوصالها على يدِّ التّتر المغول. ورمى بها القدر لتتمسك بالاحتلال العثماني الذي يحمل الهوية الإسلامية طيلة أكثر من أربعة قرون، وهو اعتقاد مشروع أملتهُ عليهم طبيعة المرحلة، وأسكنتهم إليه الضرورة، على الرغم من أنَّ العثمانيين لم يحسنوا صنعاً مع العرب في احتلالهم هذا، ولم يحاولوا تطوير البيت العربي ثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً. وظلت نظرتهم تتمحور حول كيفية الإفادة من خيرات البلاد العربية، واستثمارها في تعزيز مصالحهم الخاصّة في الاستانة مقر عاصمتهم، من دون الالتفات إلى حال الشعوب العربية التي كانت تتضور جوعاً، لتعيش حياة الكفاف والفقر والحاجة. وبذلك لم يجد التعليم في عهدهم أي اهتمام يُذكر، إلّا لماماً. وبفعل هذه السياسة القاصرة عمَّت الأمية والجهل أوساط المجتمعات العربية ما خلا مصر، وبيروت. إذ كانت الأولى بمنأى عن سيطرة العثمانيين بشكلٍ مباشر، وتمتعت الثانية بنشاطات الإرساليات الفرنسية، والأميركية بحكم كثرة تواجد الطائفة المسيحية فيها. وبذلك كانت البواكير الأولى للنهضة العربية الحديثة قد انطلقت من هاتين الدولتين.
 أمَّا العراق، فقصته مع الاحتلال العثماني قد تضمنت حيثياتها تراجيديا بالغة الحزن، لما كانت عليه سياساتهم من ممارسة القوة، واضطهاد الشعب العراقي، وعدم توفير أبسط مسببات العيش له. ونتيجةً لذلك إمتعض العراقيون من هذه المعاملة السيئة. واستبشروا خيراً بقدوم الاحتلال الإنكليزي الذي أعلن بدايةً أنَّهُ جاء محرراً لهذا الشعب من ظلم، واضطهاد العثمانيين. غير أنَّهُ نكَل بوعده، وأظهر القسوة المفرطة مع معارضيه، لاسيَّما من أبناء الفرات الأوسط، والنجف منهم بخاصةٍ.
 هذه الأنماط من السلوكيات التي اتبعتها الامم المستعمرِة مع العراق تركت أثراً كبيراً في نفسية الإنسان العراقي، وفرضت عليه أُسلوباً خاصّاً من التعامل مع الآخرين، أسلوباً ينماز بالقسوة والغِلظة حتى وُصف العراقي بصاحب الدم الحار. ونظراً للتعقيدات التي فرضتها الوقائع السياسية في العصر الحديث كانت المماحكات، واختلاف وجهات النظر، وتضارب المصالح بين الدول هي السمة البارزة. ولا يمكننا هنا أن نغادر العلاقة بين العراق والكويت آنذاك من هذا التوصيف السياسي. إلّا أنَّ طريقة التعامل مع الموضوع من قبل النظام السابق لم تركن إلى الدبلوماسية الحديثة. بل كانت مبنية على خلفيات من الجهل والتخلّف، واعتماد القوة المفرطة. وإنَّ السلطة في منظورهم طريق لفرض الهيمنة، واستعباد الآخرين، وإتباع فلسفة (البقاء للأقوى) وهي فلسفة قديمة عاشتها حياة الغاب، وبعض القبائل العربية أبّان العصر الجاهلي، وبقيت نسقاً ثقافياً يموت ويحيا بين الفينة والأخرى تبعا للظروف البيئية التي تحيط به. وهكذا كان غزو الكويت صورةً من بقايا حدثٍ قديم أحيتهُ سياسة نظام دموي حكم العراق بالنار والحديد.