جوليا كريستيفا الغريبة التي تسكننا

ثقافة 2021/08/10
...

 د.نصيرجابر 
منذ المرة الأولى التي طرق فيها اسمها مسامعي  بحروفه المموسقة: (جوليا كريستيفا)  في محاضرة  للنقد الأدبي الحديث أوائل التسعينيات وأنا أدور دائما وأبدا حولها بمحبّة واعجاب ودهشة وتمحيص  وتدقيق، فبعد زوال أثر سلطة المعرفة المتعالية المفترضة التي تصاحب عادة الأسماء الكبيرة التي تعرض علينا -كطلاب علم لا نجيد غير لغة واحدة - وكأنها خلاصة للفكر الغربي تساءلت كثيرا هل عبرت جوليا  كريستيفا حاجز اللغة والزمان والمكان بسبب أمزجة المترجمين مثلا أو  بسبب دفع وتحريض أيديولوجي، أم أنها فعلا ظاهرة معرفية أصيلة وعميقة تستحق أن تنقل إلى لغات العالم كلها والجواب كان يترسخ دائما وبعد كل قراءة جديدة لمنجزها الفعال والحركي والمؤثر في عالمنا اليوم.
جواب لا تردّد فيه ولا مبالغة ولا اعتساف.. جوليا من أهم الأصوات الحداثية وأكثرها تغلغلا في مسارب العلوم التي نحاولها اليوم لنتمكن من فهم النص وما حوله وربما لنفهم ذواتنا في عالم هشّ متصدع قلق. 
ولدت كريستيفا العام 1941 في مدينة (سليفن) شرق بلغاريا والدها كان محاسب الكنيسة في البلدة إلتحقت هي وشقيقتها بمدرسة فرنكوفونية تديرها راهبات
 دومينيكيات.
وجرّها طموحها الكبير واجتهادها الحقيقي إلى باريس لتدخلها في الوقت المناسب تماما عام 1965 في أوج غليانها الفكري والثقافي والاجتماعي وهي في الرابعة والعشرين من عمرها. تزوجت بعدها من الروائي الفرنسي فيليب سولرز وهو دائما يبدو لي زواجا ثقافيا رمزيا ففيه عبرت المهاجرة ذات الملامح واللكنة المختلفة أغلب الأسوار لتندكّ تماما في آتون عاصمة النور مباركة ومعمّدة بإرهاصات أعمدة الحداثة الذين زاملتهم وتأثرت بهم وربما تأثروا بها أيضا، ولعل أقربهم للذهن المفكر  رولان بارت (1915 - 1980) وميشال فوكو (1926 - 1984) وجاك دريدا (1930-204) ومواطنها البلغاري الآخر تزفيتان تودروف (1939 - 2017)  ولتظهر جوليا دائما في تحولات جديدة تواكب هذا الصخب المعرفي الهائل الذي أنتج حداثة معرفية مهمة وحقيقية ما نزال نعيش آثارها في مجالات الفكر كافّة حتى هذه اللحظة.
والحقيقة أن الإلمام بمشروعها الفكري الكبير يبدو مخلّا جدا في مقال قصير مقتضب، ولكن يكفي أن نقول إنّ عقلها الحركي متشكك بكل شيء فهي لا تقنع بغير ما يمليها عليها (يقينها) هي و(هي) فقط؛ لذا عمدت إلى تفكيك كل البديهيات الرائجة التي كان يمرُّ عليها من دون مراجعة.
وهذا اليقين الخاص بها قادها إلى سبر غور الآخر سواء أكان مهاجرا منفيا أو حاملا لفكر مخالف بطريقة عميقة ودقيقة وقد ساعدها عملها معالجة نفسية في عيادة المستشفى الجامعي على تحديد شكل الذات وحدود الجسد الذي يعاني –بحسب  جوليا- من أمراض واضطرابات سببها (الدوخة الهوياتية للمنفي) ليكون هذا (الغريب) في حالة (هشاشة نفسية) دائمة تدفعه ليكون فاعلا في وضعه الجديد وهو يحاول أن يجد وشائج انتماء جديدة تربطه بوطنه البديل.
لذا لا غرابة أن نجدها تقول في واحدة من شذراتها الصادمة (الغريب يسكننا على نحو غريب) لتنطلق بمفهوم جديد عن (الغربة) و (الاغتراب) مفهوم حاد ومتشعب يضرب بجذوره في مناطق ثقافية مختلفة ومتناقضة  أحيانا ويمتاح من غدران فكرية متوازية ولنفكر بعد أن نخرج من حوارها الدقيق بحصيلة مقلقة عن  مدى الغربة التي نعيشها الآن مع الآخر الذي قد لا يكون غريبا عنا
 أبدا.
جوليا في مشوارها البحثي الطويل اقتربت أيضا من أعلام المعرفة وصناع الهوية الثقافية في فرنسا الحديثة مثل (رامبو- رينان- لوتريامون-مالارميه) وكان هذا الاقتراب.. في شكله العام كما يبدو لي واحدة من صفات هذه المرأة التي تحاول دائما أن تثبت أنها فرنسية بهويتها المبدعة.. المبدعة فقط.    
جوليا الناقدة الأدبية والمحللة النفسية والمنظرة النسوية والأكاديمية اللامعة كان لا بد أن تكون حكاءة؛ لذا جاءت روايتيها (ساعة الحائط المبتهجة) و(الساموراي) لتكمل هيمنتها على سلطة المعرفة التي تلجها ساردة هذه المرة ومؤسسة لخطاب يحمل بكل تأكيد وجهة نظر نسوية  لسيدة تدنو من عقدها الثامن بهدوء.