(كفاءة السرد القصصي) كولاج تأويل كتاب (روشيرو) للقاص (حسين رشيد).

ثقافة 2021/08/10
...

علي شبيب ورد
ماذا يمكن للكاتب أن يفعله، والكتاب السابقون كما يبدو، قد فعلوا كل شيء قبله؟ ما عليه سوى إعادة كتابة الاحداث والمجريات وتداعياتها وفق نسق خاص به، عندما يحاول ان يكون متفرداً في آليات تشكيل وتفاعل مكونات منظومات بث منجزه الابداعي. ولسنا هنا نجزم بنجاح او عدم نجاح كاتب ما في ذلك، فالقدرات والمهارات تتفاوت من كاتب لآخر. وهذا يتم من خلال تقانات متنوعة ومتجددة عبر الازمنة، كيما يتمكن من تحقيق ما ذهبنا اليه اعلاه حول التفرد.
اذن تلعب الخبرة المتأتية من تواصل التمرين الكتابي، دورا مهما في تأصيل وتكوين المنجز الابداعي للكاتب، ومن هنا تتبين مهارته أو كفاءته السردية في الانجاز والبث. و(الكفاءة السردية (narrative competence  ) تعني: (القدرة على انتاج السرود <الحكايات> وفهمها. إن أحد أهداف السرديات هي أن تصف خصائص الكفاءة السردية.).
ولنا أن نتساءل هل يشي كتاب (روشيرو) الماثل للفحص الآن، الى أن القاص حسين رشيد يتمتع بكفاءة سردية؟ علينا أن نؤجل الاجابة عن هذا السؤال حاليا، ريثما يتسنى لنا التعرف على ما يستبطنه من تفاصيل تعيننا على الاجابة. ولسوف نعمل اجراءنا الفاحص وفق كولاجات تأويل مع قصاصة ملحقة، وكما يلي:
سرد مونولوجي/ كولاج تأويل أول:
جميع نصوص الكتاب كشفت لنا عن هيمنة الصوت الواحد، وهو أنا السارد العارف والمتعايش مع الاحداث والمجريات بكل تفاصيلها وتداعياتها. ولعل القاص أراد بذلك أن يكون الكاشف للخبايا والمجاهيل، والناقد البصير للراهن العراقي المريب، الذي يتسم بالفوضى والخراب وغياب البوصلة. أي انها اتسمت بالسرد المونولوجي (monologic narrative) وهو (سرد يتميز بصوت موحد يتفوق على غيره من أشكال الوعي في هذا السرد) وبهذا يختلف عن السرد الديالوجي متعدد الأصوات. 
 ومع أن مخيلة القاص استدعت الفائت من سيرة حياة السارد، غير أن مشاهد الفائت انصهرت في الراهن المعاش بعد تغيير 2003. فكان الماضي بكل هيئات وجوده في مخيلة السارد، ماثلا في الحاضر عبر لقطات شتى، لعدسات مخيلة تأثرت بأحداث غائبة وبأحداث جارية، وتلمّح احيانا بتنبؤاتها لآت محتمل. كما أن السارد يروي عن شخصياته المتعايش معها بلغة بسيطة واصفة لها وكاشفة عن أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية امام المتلقي (لم يتبق له ما يمكن العيش من أجله بعد ادمانه الخمرة ولعب القمار، وفقدان عمله، وحبيبته، في احدى المشاجرات، الأمر الذي أبقاه حبيس شقته.).
تصميم النسق/ كولاج تأويل ثانٍ:
عرض القاص كتابه وفق مجاميع قصصية هي: (تعال لأريك/ تمعّن بتلك/ تحدث معك.. ثلاثيات/ تخيّل ذلك.. مشاهد قصصية: دنيوية وآخروية) وكل مجموعة تخفي عناوينها الفرعية نصوصا تتقارب مواضيعها لخدمة عنوان المجموعة. وفق هذا نلمس اهتمام القاص بهندسة المبنى السردي بقصدية واعية لوظيفة النص السردي سيميائيا ودلاليا. والنصوص عموما لا تخلو من اشارات ورموز ايحائية، ساهمت في استدعاء جماليات ما وراء السرد. وكأننا أمام نصوص كتبت بعد مسودات أوراق، لتشريح حركة السرد، وتنظيم آليات توهج مفاتن الفضاء السردي. 
وقد حرص القاص على ان يتدخل في تفاصيل تفضي الى انتاج شفرات موجهة للتلقي، وتعمل على تحريضه للقيام بقراءة واعية قادرة على تشكيل نصوص تأويل ممكنة. وهذا يتم عبر التركيز على بعض السمات او الملامح او الرموز او الاشارات التي من شأنها أن تحفز المتلقي على الاستعانة بخزينه المعرفي، بغية التوصل الى احتمالات عدة لنصوص ما بعد القراءة. ففي نص (أربعة) مثلا ركز القاص على الرقم (أربعة) منذ بداية النص وحتى نهايته، وهذه اللعبة الكتابية تشي الى انه يرى ان الكتابة عمل عقلي قائم التمرين المتواصل، وليس المخيلة سوى مرجل رؤيوي لصناعة النص المتجه للتدوين. (بعد مرور أربعة شهر.../ لغيابه أربعة أيام.../ التحق في اليوم الثالث، ويوم آخر في الطريق.../ تسلسله كان الرابع.../ بعد ثلاثة اطلاقات اخترقت جسده، جاءت الرابعة.../ رحل تاركا خلفه أربعة أطفال، أصغرهم يبلغ من العمر أربعة أشهر.).
انسانية الموقف/ كولاج تأويل ثالث: 
الكتاب يكشف عن مواقف ادانة واحتجاج وتهكم من المجريات وتداعياتها، وهذا يتبين في جميع النصوص، حيث ندرك انحياز القاص لما هو جمالي أدائيا،  ولما هو انساني موقفا. نص (الرئيس صورة) يمثل ادانة من لدن القاص لجبروت ما قبل التغيير، حيث تسلط الفرد على الجماعة والمجتمع التابع للمركز في أعلى الهرم (لم يكن يطمع بشيء سوى أخذ صورة مع الرئيس يعلقها في غرفة الضيوف...).                       
بينما نلاحظ في نص (نون أولى) استعادة لذكريات (السارد/ القاص) لمرحلة الصبا خلال الحرب، وانشغالهم بشخصية احدى عاهرات محلتهم آنذاك. ساهمت الحرب في تدمير المجتمع ومازالت آثارها شاخصة حتى الآن، وقد مهد الانحطاط الاخلاقي إبان الحرب، الى شيوع مظاهر سلبية اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا (وبعد حين صادفتنا مرة أخرى وهذه المرة توصلنا الى اتفاق أن تظهر لنا الجزء العلوي من فخذيها، ونبدأ بممارسة الجنس اليدوي على نحو جماعي...).  
اما نص (موت) فيعرض لنا بسياق تهكمي اسباب الموت، التي تعددت في العصر الحديث، فيتقمص القاص شخصية جثة تقول إنها لا تتذكر كيف ماتت. فتعدد لنا احتمالات شتى لاسباب موتها وتحولها الى جثة هامدة، فهي لا تذكر بالتحديد السبب الحقيقي لموتها، فتسرد لنا احتمالات شتى لهذا الموت (وأيضا أتخيل أنهم جندوا احدى النساء وفخخوها بحزام ناسف، وتناثر في الفضاء جسدها بعد أن فجّرت نفسها، لكن المهم أنني الآن ميت.). 
فاتنا أن نشير/ قصاصة ملحقة: هو اننا وقفنا عند كتاب قصصي جدير بالاهتمام، لما ينطوي عليه من رصد للاحداث، وتنقيب في تحولاتها بسياق سردي شيق، تمكن من الامساك بتلقينا حتى النهاية. ومكننا أيضا من التعرف على ورشة اشتغال حافلة بتنويعات اتصالية، كما تميزت نصوص الكتاب بالتماعات جاذبة ومغرية للتواصل القرائي، ومحرضة للتأويل. 
ولعل الايجاز والتكثيف اللغوي من اهم سمات نصوص (روشيرو) لأن القاص اعتمد (بلاغة البساطة) في اللغة، وابتعد عن المفردات والتراكيب اللغوية القريبة من القواميس. فكانت اللغة قريبة ومناسبة للشخصيات على تبايناتها الاجتماعية والثقافية، وهذا الايجاز منح المتلقي فرصة سانحة لفهم النص وادراك ما وراء السرد. هذا بالاضافة الى اننا لمسنا أن النصوص توفرت على منظومات بث تتمتع بخصوبة اتصالية، ساهمت في تفعيل زمن القراءة، ووفرت للمتلقي فرصة افتراض نصوص قراءة وتأويل ممكنة ومحتملة. واتسمت النصوص بتوهجات جمالية ذات تشفيرات سيميائية موحية دلاليا، لانحيازها للانسان في توقه للحرية، والخلاص من العراقيل والمصدات المانعة لتطلعاته الانسانية، وبحثه عن عالم يستجيب لامله كمواطن يتمتع بعيش كريم وأمن ومساواة، وليس كتابع لصنم. واعتمادا على ما ورد أعلاه يمكن الاشارة الى أن كتاب (روشيرو) القصصي يجيب عن تساؤلنا أعلاه، كونه يؤكد أن القاص حسين رشيد يتمتع بكفاءة سردية، تؤهله لاحتلال مكانة مرموقة في ذاكرة السرد.