النسويَّة ومثالها الشعري العراقي الراهن

ثقافة 2021/08/12
...

 د. علي حداد
 
 حين جرى التمعن باستقراء خصوصيات الأدب النسوي العربي وبرزت اهمية تحفيز المشغلات الفكرية والاجتماعية التي تلقي بكثير من مؤثراتها عليه، فقد نظر إلى اللغة العربية بوصفها واحدة من معيقات إمكانيات التميز الجنوسي من خلالها، وهي المحكومة ـ طبقاً لتلك الرؤية ـ بهيمنة ذكورية كيّفتها لمشيئة إداء تحتكم لمقاصدها، ليذهب بعضهم إلى القول بأن المعاناة التي تكابدها المرأة في تأكيد حضورها الأدبي سببها اللغة التي استطاع الرجل احتكارها لنفسه.
ولكي تكتسب اللغة سمت تمثل أنثوي ـ طبقاً لتلك الرؤية ـ لا بد من لغة جديدة تكون (لغة غير جنوسية)، وهو ما يدعونا إلى التساؤل هنا عن ماهية تلك اللغة التي ستندّ بامتيازات نسويتها، واللغة بعامة ممارسة ذهنية لها تشكلها في دلالات جمعية. وهل القضية تتعلق باللغة أم بمقدرة استعمالها من خلال مدرك خاص يستوعب الاشتغالات النسوية ويتمثلها؟
وإذا كانت القضية منصبة على اللغة العربية من دون سواها من اللغات، فلعل الأمر على عكس ما يشاع عنها، فلغتنا تعزز الوجود الأنثوي وترسخه في منطوقات لغوية دالة على تمايزه، بما يمحضه فاعلية أداء متفردة كما عليه الحال في (التركيب النحوي) حيث ضمائر التعبير الخاصة بالتأنيث، وخصوصيات التثنية والجمع النسوي. وما تذهب إليه ـ على الصعيد الدلالي ـ معظم صياغات البنى القيمية ومصادرها الصناعية من نسق تأنيث متواتر.
      ويتماهى مع الموقف من اللغة العربية ما جرى رصده من أمر (التراث العربي) الذي قال بعضهم إن المرأة فيه  مزاحة ومغيّبة تماماً. ولعل في هذا القول ما يغادر كثيراً من الوقائع التاريخية التي حضرت فيها النساء بقوة الفعل الممعن في مواجهة السائد، ليرسّخن حضورهن على صعيد الممارسات الدينية والسياسية والاجتماعية ـ ملكات وكاهنات وأديبات، وفقيهات كذلك ـ وذلك ما دونته لهن موثوقية تاريخية لا ترصد من الفعل الإنساني ـ ذكورياً كان أم أنثوياً ـ إلا الشواخص المتعينة والوقائع ناصعة الإدلال. لأن الأمر لا يتعلق بالنوع الجنسي بقدر تعلقه بصلابة الحضور وتميز الفعل الذي تصنعه قدرات لافتة.
 رأت الدكتورة نادية هناوي في مقدمتها لكتاب (رابسوديات، ص5) المتضمن قصائد عدد من الشاعرات العراقيات في المرحلة الراهنة أن الناظر لهذا المنجز الشعري «يجد صعوبة في وضع ملامح تدلل عليه، لأسباب بعضها نقدي ـ ثقافي يرتبط بنظريات الهوية والانتماء والجندر والأنا والآخر والذات والكينونة وأنساق الهيمنة والاقصاء، وبعضها الآخر اجتماعي ـ ثقافي له صلة بضواغط السياسة والدين والإعلام والمجتمع والإثنية
وغيرها».
ولكن ذلك لم يكن مانعاً عندها لأن تحدد بعضاً من ملامح القصيدة النسوية العراقية التي وجدتها تعلي من الشأن النسوي مدافعة عنه غاضبة مخلصة، تماشي الواقع ولا تخاتله. لا يعنيها الغوص في الماضي، كما لا حاجة بها لأن تتصور الآتي، كونها منغمسة في حاضرها. ولم تعد القصيدة للإغواء، وهي واقعية وإن راهنت على الرومانسي، فهي ـ وفي الوقت الذي تنغمس في الحلم ـ ترى الحياة بعمق دفين، لتعرف وجودها في واقعيته ورومانسيته ورمزيته وقد كسرت القصيدة واحدية الشكل الفني، لتنفتح ـ من الناحية التجنيسية ـ على مختلف الأشكال الشعرية، مستفيدة من مديات التوظيف
السردي.
ولا شك في أن بالإمكان مناقشة ما أبدته الباحثة هنا، فمن البداهة أن تعلي القصيدة من الشأن النسوي، ما دامت كاتبتها أنثى. ولعل واقعيتها متأتية من سمت غالب على الشعرية العراقية التي بقيت على طول خطها واقعية، وإن لامست شيئاً من الرومانسية والرمزية واستعارت أدواتهما. أما كسرها واحدية الشكل الفني فمما لا نذهب إليه، فالغالب على القصيدة النسوية العراقية الراهنة ميلها إلى الشكل (المنثور)، حتى بدا أن شكل (الشطرين) ومعه (التفعيلة) قد تركا حصة للذكورة. 
وسوى تلك السمات التي أقرتها الباحثة يمكن القول بأخرى مضافة، مثل أن القصيدة النسوية العراقية تكاد (تعلق) الاشتغال على الهمّ السياسي المباشر، فهي تأتي به متماهياً مع انغماسها في الجانب الذاتي الذي يأخذ بعداً اجتماعياً دالاً. وذلك أمر منطقي يتناسب وطبائع التحسس الأنثوي.
وفي مسألة خارج تشكل النص الشعري لا نجد مسألة (الأجيال الشعرية) مما يشغل الشاعرة العراقية، فبعد (نازك الملائكة) وانتمائها إلى (جيل رواد قصيدة التفعيلة) ـ وإن كانت تلك الريادة فنية وليست زمنية ـ لا نجد تبويباً معلناً يضع أو يبوب شعر المرأة العراقية جيلياً، كما هو الحال مع شعر الرجال، وفي ذلك خصيصة تحسب للشعر النسوي حين يجيء منجزه غير موقوف على زمنية ملزمة التأشير بل يطلقه في فضاء التمثل الإبداعي
 المتسع.