ابن المحلة

الصفحة الاخيرة 2021/08/12
...

حسن العاني
 
فتح عينيه في محلتنا البغدادية القديمة، وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية وحصل على شهادة الماجستير ونال وظيفة مرموقة، وهو في ذلك كله ابن المحلة وناسها ومقاهيها وتقاليدها، مثلما هو في ذلك كله عنوان للشاب المثقف الكريم الذي يحتفظ بأرقى العلاقات وأنبلها مع افراد اسرته واصدقائه وجيرانه، في حين كان مثالاً للكفاءة والنزاهة والعطاء في عمله 
الوظيفي. 
لعل هذه الصفات مجتمعة وليس غيرها هي من وقفت وراء اختياره الى منصب مرموق جداً من تلك المناصب التي لا تسمح لأصحابها بالسكن في المناطق الشعبية، ويقتضي أن يكون سكنها في منطقة محصنة آمنة، ولا تتحرك يميناً او يساراً الا مع موكب فخم من المركبات والاسلحة والحمايات، ومضطراً كان الرجل الى الخضوع لمتطلبات المنصب وأحكام المسؤولية، فانتقل مع أسرته الى البيئة المكانية الجديدة.
ابن محلتنا الاصيل كان دائم الحنين الى مسقط رأسه وطفولته واصدقاء الصبا والمقهى وخبز التنور وذكريات الحب الأول، ولم يكن امامه سبيل لاطفاء ذلك الحنين سوى الهاتف المحمول ليديم الصلة مع اصدقائه ويقدم لهم العون، وبخلاف ذلك فان الوصول الى محلته القديمة محفوف بمئة مشكلة ومئة خطر.
مضت ثلاث سنوات وهو يتحرق شوقاً لجلسة الاصدقاء ومرحهم حتى طفح الكيل وقرر ذات مساء أن يقصدهم بزيارة مفاجئة، وهكذا تنكر بملابس غير ملابسه وغادر منزله، ثم استأجر سيارة تكسي تقله الى محلته، وبينما كان يتجاذب أطراف الحديث مع السائق، لاحظ بأن السيارة سلكتْ طريقاً بعيدا عن الطريق المعتاد الى محلته، واصابه شيء من الشك لم يظهره للسائق ولكنه استفسر منه بصورة غير مباشرة ان كان قد ضل الطريق، فأجابه الرجل [لا عمي.. بس الجماعة صار سنتين تقريباً من غيّروا الطريق]، ودخلت سيارة الأجرة محلته كما اخبره السائق، فقفز الدمع الى عينيه، والمركبة ببطء تواصل سيرها، استدارت غير مرة يميناً ويساراً، وما بين مسافة قصيرة وأخرى كانوا يواجهون زقاقاً أو منفذاً اغلقته الاسلاك الشائكة او الحواجز الكونكريتية او تلال الازبال والنفايات، وعلى مدى أربعين دقيقة والرجل يبحث عن مسقط رأسه وعن مقهى الطرف وبيوت الاصدقاء من غير جدوى، عندها انفجر باكياً وطلب من السائق أن يعود ادراجه، وكان مستغرباً من الخراب الذي لحق بمحلته وهو في موقع المسؤولية يتفرج، وفي أعماقه صوت يصرخ : ليس اشد وجعاً على المرء من أن يضيع في وطنه 
الصغير!.