{الخيال والصنعة} و{البعد الواقعي} لدى ماركيز

ثقافة 2021/08/14
...

  وليد خالد الزيدي
 
صنف الأدب بوضعه في إطار فنون المحاكاة المؤثرة في المتلقين، حينما يحمل ضمن طياته طابعا دراميا، وهنا يمكن أن نذكر أرسطو الذي صنف أدب الشعر من وجهة نظره، بأنه لا يعد مادة، بل ما يقع في تلك المادة، من تخيل، كذلك من أهم وظائفه إثارة انفعال المتلقي حتى تغيير سلوكه، واذا ما أمعنا النظر بعمق الى أحد أهداف الشعر، في مجتمع ما او الادب بشكل أعم، نجد أن الأمر لا ينطبق فقط على الشعر بحد ذاته، إنما ينطبق الى حد بعيد على أجناس أدبية أخرى، كالرواية مثلا، لاسيما حينما تتجه البوصلة الى أهم مبدعيها العالميين الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، ولو تطرقنا بشكل أكثر خصوصية الى حياة ماركيز الذي درج مخيلته على حكايات شعبية وعلى خرافات الشعوب، حينما كانت جدته تسردها عليه إذ تتحدث من دون وعي، فقد تلقى منها البذرة الأولى لتوجيهه نحو أسلوب الحكي الخرافي الساحر واللا معقول، عندما استعمل الخيال لتغذية الواقع لا للهرب منه، وفي روايته (ايرينديرا البريئة) إذ كانت ايرينديرا تعيش مع جدتها حين هبت ريح شقائها بداية تلك الرواية التي تحكي قصة فتاة قاصر تعيش برفقة جدتها التي تتسلط عليها بقسوة مفرطة، وما ان تصل الرواية الى فصل الحريق الذي نشب في خيمة الجدة التي تقيم فيها مع ايرنديرا والذي عصف بكل ما تملكان، حتى ارتأت الجدة جر حفيدتها لامتهان البغاء في سعيها لتعويض ما خلفه هذا الحادث من خسائر، فقد انصاعت تلك الفتاة الجميلة الى تلك الارادة الغريبة، فعاشت منذ ذلك الحدث المهول حياة تعاسة وشقاء، فهي تارة تقوم بتلبية رغبات طابور طويل يصطف كل يوم أمام الخيمة، فتقدم لهم خدمات جنسية بأثمان تقديرية تقرر قيمتها جدتها التي تشرف على لقاءات المتعة الجنسية هذه، بمساعدة شبان هنود استعبدتهم بأثمان زهيدة، وفوق ذلك وكلما انزلقت الشمس نحو المغيب، وانتهت إيرينديرا من خدمة زبائن المتعة، تقوم بمهام منزلية عديدة كطبخ الطعام، واعمال الغسيل وتنظيف الخيمة، وتحميم جدتها ذات الجسد الضخم، تارة أخرى. ونرى في روايات ماركيز الخيال الفنتازي، وهو ما يضيف صورا من الخيالية الصغرى للأدب، ولكن ثمة حقيقة أكبر من الفنتازيا تلك، فالخيال استخدمه لتأطير الواقع بالوان تضفي جمالا للمتلقي ليجد نفسه في متعة المتابعة، وفضول وتشوق لإدراك الاحداث بالتوالي، ومعرفة النتائج وربطها بمجريات فصول الرواية، فمصطلح (الواقعية السحرية)، يتجسد من دون قصد احيانا حينما يركز القارئ على نصفه (السحري)، لكونه اشد وقعا على النفس البشرية من نصفه الاخر (الواقع)، لكننا نرى في حقيقة الامر ان الواقعية السحرية متأصلة عميقاً في الواقع، ولأنها تنشأ منه وتنيره بطرق جميلة وغير متوقعة، فإنها تنجح، في الامتاع عند الترقب بمواصلة القراءة بتشويق لمتابعتها حتى النهاية. 
أسس غابريل غارسيا ماركيز حالة من تحليق الفنتازيا لكونه أوجد أرضية واقعية لها، وتكمن عالميته في أنه كاتب كولومبي ينتمي لمجتمعات اميركا اللاتينية، لكن في الواقع تصلح نتاجاته لمجتمعات عدة، حيث وجدت رواياته في أمكنة مختلفة البيئات وفي صفحاته حقائق عن تجارب خاصة في الغرب والشرق، إذ جسدت أحداثا بين المدينة والريف وفوارق الحياة بين أغنياء الارض وفقرائها، وبين اصحاب السلطة وضحاياهم.