في مفهوم العقل النقدي

آراء 2021/08/14
...

 د. صائب عبد الحميد
النقد طريقة في التفكير تتسع للاشياء كلها، لكل ما يمكن ان يكون مصدرا لمعلومة، أيا كان نوعها وحجمها. وهو استعداد نفسي للتعامل مع الاشياء على اساس الانتباه والسؤال، السؤال المنهجي من دون سواه. ولا اعني بالسؤال المنهجي السؤال الخاضع بالضرورة للقواعد المنطقية الصارمة، انما أريد به اي سؤال يبحث بصدق عن معرفة، فهو ليس السؤال السفسطي، ولا السؤال التسطيحي التوهيني الذي يراد منه تشويه المعلومة او مصدرها ابتداءً.
 
النقد استعداد نفسي قبل ان يكون درسا نتلقاه، لكنه بكل تأكيد طريقة في التعامل مع الاشياء قابلة لان نتعلمها بالتمرين والممارسة، فهو ليس من الصفات الوراثية، ولا من المواهب النادرة. انه ايضا نمط من انماط السلوك، وكل سلوك انما يتم تعلمه بطريقة او بأخرى، فالسلوك مكتسب وليس موروثا. 
والنقد سلوك في التفكير والنظر، فأحرى به ان يكون مكتسبا، دون ان نلغي وجود سلائق مجبولة عليه، لكن حتى هذه انما تنمو وتكتسب قدراتاها المنتجة بمساعدة الاكتساب، بالتربية والتعليم والتدريب والتمرين. فاذا كان هذا النوع من التربية والتمرين قد تحقق في عمر مبكر واكتسب صفة التواصل والديمومة، خلق سليقة سوية لا تتعاطى مع الاشياء الا وفق هذا المنهج، اعني 
النقد.
نعم النقد هو الطريقة السوية الوحيدة في التعاطي والاستقبال، وليس ما سواه الا العجز والوهن والاتكال والتراخي والنمطية المفرطة.
ولا يتوقف النقد عند نقد وفحص وتدقيق واختبار الاشياء الخارجية، بل هذه هي الخطوة الاولى والاساس للتفكير النقدي، اما ما بعدها فهو العودة الى نقد افهامنا وتصوراتنا للاشياء تلك، الافهام والتصورات التي نتجت عن مراحل النقد الاولى، فهل ما فهمته وادركته من الظاهرة التي تعاملت معها هو الفهم الصحيح والسليم؟ الا يمكن ان يعتريه شيء من الخطأ وسوء الفهم؟ الا يمكن ان اكون قد اغفلت بعض او احدى زوايا النظر والتأمل؟ الا يمكن ان يكون فهم الاخر الذي اختلف عن فهمي اقرب للصواب؟ هل ما استوعبته وخلصت اليه هو نهاية كل شيئ في موضوعه؟ ام الامر عرضة للتغير والتحول؟ هل تتوقف المعلومات والمعارف عند حدود نهائية ترسخت في ذهني، ام ان لها قدرة على التجدد، لها سيرورة بفعل الزمن؟ لها استعداد على اكتساء الوان اخرى وابعاد اخرى؟.
هذا هو نقد الفكر والمعرفة الذي نعنيه، اما نقد الظواهر الخارجية فهو الخطوة الاولى والابتدائية لأي تلقٍ، سواء كان مصدره مسموعا او مقروءا او 
محسوسا. 
النقد أيضا، هو الوسيلة والاداة التي تحد من انتشار الخرافة والشعوذات والتقاليد والمفاهيم المجافية للعقل السليم. من هنا تنشأ الخصومة مع النقد في المجتمعات التقليدية التي صار سر تماسكها يكمن في التمسك برواسبها الفكرية والسلوكية، ومنها المجتمعات الدينية البسيطة، حيث طبيعة التدين فيها تفتح الأبواب مشرعة لقبول الخرافة وتفشيها. وقد كان فولتير على صواب حين قال: «الخرافة أفعى تنشأ في حضن الدين، فكيف تستطيع أن تسحق رأس الافعى دون أن تخدش الحضن الذي يضمها؟» لكن لماذا في حضن الدين تنشأ هذه الافعى؟ ببساطة لأن الدين، أي دين كان، انما يقوم على الايمان بقدر من الغيبيات التي لا يمكنك التفكير بالبرهان الحسي على وجودها وعلى حقيقتها وطبيعتها، وعندما لا يكون العقل متيقظا، حذرا، فان هذا الايمان سيجعل النفس قابلة للايمان بأفكار أخرى ذات طبيعة غيبية دون التمحيص فيها، أحيانا تحت عنوان المعجزات والكرامات، واحيانا تحت ذريعة «الممكن عقلا» التي تضع نهاية مأساوية للسؤال، وهي غالبا ما تتسلح بمقولة «فرض المحال غير محال». وهكذا تتوالد من «الممكن عقلا» الذي لا يخضع لأي من أساليب البرهان، ومن «فرض المحال» ما لا نهاية له من أفكار قائمة على الوهم، وخرافات لا حصر لها، تأخذ في معظم الحالات طابع القداسة، قداسة منتزعة من البعد الديني او الروحي المزروع فيها. هذا النوع من القداسة الوهمية هو الذي قاد الى الحكم بالاعدام على سقراط، وتسبب في مقتل العديد من الانبياء والمصلحين في شتى المجتمعات
 البشرية.
من زاوية اخرى، قاد العقل النقدي أبو حامد الغزالي وديكارت الى اتخاذ مبدأ «الشك» طريقا الى المعرفة القائمة على التمحيص والتدقيق والبرهان. وهنا تظهر فارقة غاية في الاهمية، اذ انتهى ابو حامد الغزالي إماما، خصما للفلاسفة، بينما انتهى ديكارت ليتصدر أسماء الفلاسفة، وعلامة فارقة في تاريخ الفلسفة. هذا الاختلاف هو من طبيعة العقل الحر في تفكيره، وهو الامر الذي ينبغي الاعتراف به واحترامه، شريطة كونه ناجما عن التفكير الحر، وليس عن الاتباع 
والتقليد.
لكن بالنظر الى كوننا عشنا ونعيش انماطا تربوية وتعليمية تقليدية تزودنا بالاستعداد للتلقي المباشر، او التلقين، لذا نحن بحاجة الى اثارة الاسئلة ازاء هذه المناهج التربوية والتعليمية ونتائجها السلبية على الفرد وعلى الحياة الاجتماعية برمتها.. على الفكر، على السلوك، على مستوى الوعي العام والادراك، على طبيعة وانماط العلاقات الاجتماعية، على الاقتصاد، على السياسة، على البيئة، على الحاضر كله وعلى المستقبل.