الجرأة في البحث العلميّ

ثقافة 2021/08/14
...

  د. عبد الكاظم جبر 
 
إنّ واحدة من أهم سمات الباحث العلمي التي يتميز بها؛ هي الجرأة، التي هي صنو (الموضوعية)، أو قل: وليدتها. والجرأة بعدُ ضربٌ من الشجاعة!، وهي بهذا وسط ذهبي -كما يعبر أرسطو- بين رذيلتين هما الجبن والتهور، بمعنى أنها لا تعني بحال مِن الأحوال تجاوز حدود الأدب مع الآخرين والافتراء عليهم والوقاحة، بل تعني (أن تقول عن الباطل إنه باطل وعن الحق إنه حق، غير خائف أو وجل).
وهذه السمة أو إن شئت قل: الشرط؛ لا يتأتّى لمن يطلب عرضاً زائلاً ومتاعاً قليلاً، بل يتأتّى لمن يطلب الصدق ويتحراه ويتماهى معه قدر ما يطيق ويتمكن، فليس في البحث صديق أو عدوُّ، بل حق وحقيقة، وأفضل ما تكون الجرأة عندما تكون اعترافاً بالخَطَأ، والاعتراف بالخطأ فضيلة. ومن ثم فإن أعلى درجات الجرأة أو الشجاعة، كما يقول علي جواد الطاهر، هي (أن تكون صريحاً وأن تضحي، ولكنها درجة عالية جداً ليست في متناول كل الباحثين، فإن استطعتها فبها، وإلّا فالأنسب لك ألّا تلج بحثاً لا تجرؤ أن تفرح بنتائجه). 
وسأشير -هنا- إلى ضربين من هذه السمة أو الشرط، تاركاً الإشارة إلى سواهما من الضروب، وأزعم أنهما من أعلى درجات الجرأة وأسمى فضائلها، وهما:
 1 - عدم الانتصار إلى أية قضيةٍ كان اختيار البحث فيها يعني أنها ذات قيمة ألحت بانتخابها، وهيأت للتصدي لها، إذ (إن اختيار المرء جزء من عقله)، ولا فرق في أن تكون تلك القضية (جهة أو شخصاً أو مسألة). 
ومن ذلك أن يختار الباحث شخصية علمية في مجال معين، وبعد البحث والتفتيش يتبين له أمر يتطلب منه الجرأة والشجاعة، كي يقول كلمته من غير مواربة أو التواء أو انحياز. وهنا أذكر الدكتور طارق الجنابي – حفظه الله تعالى- فقد كان منه أن أقدم على دراسة (ابن الحاجب النحوي – آثاره ومذهبه) في مرحلة الماجستير، وقد كان من المتوقع من البحث أن يصل الباحث به إلى نتائج لا أقل من أن تكون في بيان منزلة هذا النحويّ المتمرس بالتعليل والتصنيف، بيد أنه يفجؤنا في أول الخاتمة بقوله: (نجز البحث، وفي نفسي شيء منه، لأنه شاع بين الدارسين القدامى خاصة؛ أن أهمية النحوي تنصبّ - في الأساس – على آثاره، عدداً وضخامة، ونسي هؤلاء أن ذلك لا يعني ثراءً في الدرس النحوي، ولا أصالة، ولا عمقاً)، ثم يقول: (لقد أطرى المؤرخون ابن الحاجب، وأفاضوا في الإشادة به، وبآثاره، وتجاوز إطراؤهم، كافيته، وشافيته، وأماليه، أيّ إطراء لغيرها، لأن الأول مقدمة موجزة توالت عليها شروح كثيرة، ولأن الثاني كان مجلداً ضخماً في غاية التحقيق -كما زعموا- أورد فيه الزامات على 
النحاة. 
من هذا الفهم الساذج انطلق المترجمون له في اغراقه بالمديح والثناء، ولكنني – وأنا في أثناء البحث – وجدت أن هذا الحكم مغالى فيه، وأن الرجل لو انصرف الى الفقه، تاركاً النحو لأهله، لأفاد .... 
2 - الإقرار بالخسران بعد سنين من العمل والبحث المتواصل، ولو كان في ذلك مضرة عظمى على الباحث نفسه، ومن هذا ما ذكره ديكرو صاحب (نظرية الحجاج داخل اللغة)، تاركاً وراءه مجداً مضت عليه السنون، وكان ذهب مع زميله إنسكومبر إلى أن الحجاج اللساني منفصل عمّا هو خارج اللغة، ثم تبين له بطلان ذلك، يقول ديكرو «إن النتيجة التي انتهيت إليها بعد هذا التفكير في المواضع (وهي ما تقارب مفهوم المقدمات الكبرى عند المناطقة) هي أن أبحاثنا كانت تسير على غير هدى... لقد أخطأنا حين اعتقدنا أننا بصدد بيان كيفية تحقق (الحجاج) بواسطة الكلمات اللغوية والأسباب الكامنة وراء ذلك. إن الذي تبين بالفعل بحسب ما يظهر لي هو أن الحجاج بواسطة الكلمات إنما هو محال من المحالات، وأن الخطابات حتى وإن كان من الدارج وصفها بصفة «الحجاجية»، لا تربطها صلة قريبة أو بعيدة بذلك الذي يفهم من عبارة «الحجاج»، وتبين أيضا أن الحجاج ما هو إلا سراب. لقد درج بعض النظّار على القول إن الخطاب الذي يسري في الحياة اليومية لا يمكن أن ينشئ «براهين»...: هذا ما صرح به أرسطو حين جعل البرهان الضروري الذي ينماز به القياس، في مقابل الحجاج المخروم ذي الطابع الاحتمالي فقط، والذي ينماز به القياس المضمر، وقد ألح برلمان وكريز (Ekkehard Eggs)  على هذه الفكرة. لقد كنا نرى في البدء سلوك هذا المسلك عاقدين العزم على أن نُحِلَّ في اللغة الحجاج محل البرهان، عادِّين ذلك من الضروريات، وقد وقع في اعتقادنا أننا قد عثرنا على علة الخاصية الخَطابية أو علاماتها – أو بتعبيرنا الخاصية الحجاجية للخطاب – في كلمات اللسان، لكن الذي يَعِنُّ لي أننا انتهينا اليوم إلى قول أبعد من ذلك، فليست الكلمات عاجزة عن إنجاز البرهان فقط، بل هي كذلك قلما تسمح بتلك الصورة المتدرجة للبرهنة المسماة حجاجا. فهذه الأخيرة ليست أيضا إلا حلما من أحلام الخطاب، ونظريتنا ينبغي بالأحرى أن توسم بـ (نظرية اللاحجاج)». وهكذا – إذن - تنتهي (نظرية الحجاج داخل اللغة) إلى سراب بتعبير ديكرو، لأن معطيات الواقع الخارجي دائما كانت تحضر بصورة أو بأخرى في صلب الدراسات التي قام بها ديكرو، وما ذلك إلّا تعبير عن صدق البحث وجرأة الباحث، وقد حاول في أواخر أبحاثه أن يقيم فرقا بين الحجاج الخطابي والحجاج اللساني، في محاولة أخرى جادة إلى تحول الحجاج اللساني إلى بحث دلالي خالص ينهج نهج سوسير في التزامه الصارم بالمنظور البنيوي.