المرأة المغامرة وانتاج الوعي

ثقافة 2021/08/16
...

   د. نصير جابر
كلما قرأت (الغابة الضائعة) مذكّرات الشاعر الاسباني الشهير رافائيل ألبرتي (1902 - 1999)، التي ترجمتها بكثير من الحرفية والاتقان الشاعرة والأكاديمية العراقية باهرة محمد عبد اللطيف، أتوقف طويلا عند حادثة مهمّة يرويها عن شخصية نسائية مدهشة عاشت سنوات قليلة فقط، ولكنها سنوات من نار ونشاط وصخب أصيل، ففي أحد أيام الحرب الأهلية الاسبانية (1936 - 1939) يقول ألبرتي ذات صباح من مطلع تموز 1937 تلقى مقرّ تحالف (المثقفين المناهضين للفاشية) مكالمة هاتفية مؤلمة تخبرهم أن فتاة جريحة وصلتهم في وقت سابق، وقد توفيت في إحدى غرف المستشفى ولا يعرفون عنها شيئا غير أنها مصورة فوتوغرافية.
ولم تكن تلك الفتاة غير (جيرداتارو) أو (غيرتا بوهوريله) الصحفية الالمانية (1910- 1937) رفيقة المصور المجري الشهير (روبرت كابا) الذي سيموت هو الآخر في حقل ألغام عام 1954. 
 (جيرداتارو) لم تكن عابرة في تأريخ المغامرة النسوية فهي حلقة في سلسلة طويلة من النساء المتحديات اللواتي يرفضن الركون إلى السكون والروتين وغسل الأطباق أو تربية الأطفال، ويرمين بأنفسهن في آتون المغامرة والمجازفة، الذي يوفر لهنّ رضا عن الذات القلقة التواقة إلى تجريب اللحظات الحرجة.
والحقيقة أن أي مغامرة تدخلها المرأة في حياتها هي مغامرة مضاعفة وكبيرة وخطيرة وستتفوق فيها على الرجل، حتى لو لم تحقّق الهدف المنشود منها كونها ستكسر نسقا قارّا لمرتين.
الأول هو نسق المغامرة الذي يشكّل بحدّ ذاته تحديا انسانيا قد يبدو ضربا من الجنون عند الناس الروتينية الجامدة لحظة تنفيذه، ولكنه في المحصلة النهائية يعطي مدى جديدا للنفس البشرية ويدفعها إلى التعرّف على مجاهيل غير مكتشفة، سواء في العلم أو المعرفة أو المشاعر، ومن ثمّ فهو ضرورة لا غنى عنها لتغيير الحياة نحو الأفضل.
والثاني هو نسق الذكورة المهيمن القامع الذي يرى في خروج المرأة عن معطفه تحديا سافرا وخرقا لنواميس الطبيعة، التي يعرفها ويفهمها فكل التحديات الكبيرة والصغيرة لا بد أن تكون من نصيب الرجل. فهو الفارس الهمام الذي لا يشقّ له غبار والمغامر الوحيد الذي يدور في الآفاق بحثا عن المصاعب الجسام!. ومن المصادفات أنه في العام نفسه الذي ماتت في (جيرداتارو) ولدت امرأة استثنائية أخرى هي (فالنتينا فلاديميروفنا تريشكوف) وهي أوّل وأصغر رائدة فضاء في التاريخ، عام 1963 قضت ما يقارب ثلاثة أيام في الفضاء ودارت حول الأرض 48 مرّة ولا تزال وإلى هذه اللحظة هي المرأة الوحيدة التي كانت في مهمة فضاء منفردة. 
أما في عام 1992 فقد غامرت الكاتبة العربية غادة السمّان بنشر رسائل حبّ ملتهبة بعثها لها الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 - 1972)، وهي مغامرة لا تختلف - بحسب ما أرى- عن غيرها من المغامرات الشاقة والصعبة والخطرة، فنشر هذه المكاتيب السرية لسيدة متزوجة وأمّ في بيئة شرقية خطوة جريئة جدا، على الرغم من أن الرسائل كانت منقوصة فهي رسائل الرجل فقط، بينما ضاعت رسائل الأنثى واختفت من الظهور لأسباب قد تبدو مختلقة، وعلى الرغم من ذلك تبقى مغامرة غير محمودة العواقب من وجهة نظر المجتمع، ولكنها في النهاية كانت اضافة مهمة وكبيرة لأدب الرسائل العربي وتلصّصا مأمونا على عالم جواني لرجل صعب المراس، لذا كانت مغامرة غادة خطوة رائعة نحو الفهم والتفهم واختصارا لمسافة رخوة اجتازتها بنجاح ووعي كبيرين. 
 إنّ النساء المغامرات استثنائيات جدا لأنهنّ يدخلن في لعبة محفوفة بالمخاطر وفيها كسر للتابوات المتوارثة، لذا التركيز عليهن يشكل مدخلا لصورة جديدة للمرأة الواثقة يمكن أن تستثمر في فتح أفق جديد في تحديات النظرية النسوية الباحثة عن المساواة والعدل.