مسوّدات «قبلة أولى» خطوات كتابة «يقظة فينيگانز»

ثقافة 2021/08/16
...

 كامل عويد العامري
 
في عام 1926 قال جويس: أتصور أنه سيكون لدي نحو 11 قارئًا»: ومع ذلك، إذا كان المعروف عن روايته (يقظة فينيگانز) بأنّها الأكثر صعوبة للقراءة، فمن المفارقات أن تبدو الأكثر قراءة. وإذا ما أراد القارئ الخروج من ظل يوليسيس، فإن فحصا تاريخيا، يبين استمرارية واضحة بين هاتين الروايتين من خلال المغامرة الأسلوبية بتناوله لأسطورة تريستان وإيزولد، وايزولد، هنا أميرة أيرلندية. ودائماً ما ادعى جويس أن مصدر إلهامه محلي.
 في عام 1922، عندما بدأ جويس العمل على يقظة فينيگانز، لم يكن لديه أي فكرة عن الشكل الذي سيتخذه كتابه التالي. في الواقع، كما يؤكد فيريه الذي كتب دراسة نقدية طويلة لكتاب المسودات، كان جويس أيضًا أحد الكتاب الذين أصيبوا بالشلل بسبب جرأة يولسيس. وكما يقول أليوت: (بعد يوليسيس لم يعد هناك لجويس شيء آخر يكتب
عنه).
وهكذا كانت المقالات القصيرة عبارة عن تجارب كتابية صغيرة عملت كنقاط إلهام محتمل من حيث السرد والموضوع والأسلوب. لتكشف من جديدة أن جويس كان مهتمًا بقصة الأسطورة المشار إليها غير أن جويس كان يلعب بحسب المسودات بإصدارات وتكوينات مختلفة لقصة تريستان وإيزولد. التي تختلف من كاتب إلى آخر، ولكنها جميعا تتمحور حول قبلة تريستان الشائنة لإيزولد، فهو لا يعتمد فقط على نسخة القرون الوسطى من الأسطورة المعاد النظر فيها (من خلال إصراره على أصولها السلتية القديمة أكثر بكثير)، ولكن أيضًا على فاغنر الذي استلهم منها الأوبرا وعُرضت لأول مرة عام 1865 والرسائل ذات الأسلوب المنمق التي وجهها إلى ماتيلد ويسندونك (وجويس يستخدم اسم -إيزولد- كما ترد كتابته بالألمانية)، ومن هنا جاء عنوان هذا الكتاب، (مسودات قبلة) واصدرته دار غاليمار 2014 بنسخة تفاعلية باللغتين الفرنسية والإنكليزية، فبمجرد أن تضغط على النص تقرأ باللغة التي تختارها. 
مع الاكتشاف الأخير لبعض صفحات المسودات المفقودة، ظهر الرابط المفقود بين يوليسيس ويقظة فينيگانز وهي نصوص مثيرة للفضول بشأن موضوعات الأيرلندية. وهي وإن بدت قصيرة لكنها مبسطة، لاستعادة حيويته، وبذور ما سيصبح عليه أكثر روائع القرن العشرين تعقيدًا. يتمحور جوهر هذه النصوص حول أسطورة تريستان وإيزولد وعلى وجه الخصوص على قبلة العشيقين الأولى. ويحاول أن يصفها، بطريقة غريبة أحيانًا، وغنائية في بعض الأحيان، وهي بقدر ما تمثل حدثًا كونيًا فهي مغازلة دنيئة. إذ يجري الاحتضان تحت نظرة شهوانية لأربعة متلصصين خرفين، سيحدد هذيانهم نبرة وأسلوب يقظة فينيگانز. كما تكشف هذه النصوص عن جانب غير متوقع من مسيرة جويس الإبداعية وتوفر مسارا لأولئك الذين يرغبون في البدء في مغامرة قراءة أعماله.
بعد حصوله الإذن بالنشر من مكتبة أيرلندا الوطنية، التي تحتفظ بمسودات كتابات جويس، جمع الناقد الأدبي دانيال فيريه هذه المسودات وسبقته الكاتبة ماري داروسيك، التي دُعيت أيضًا لترجمة النصوص. ومن ثم، فإن المخطوطات الخمس الموجودة في هذا الكتاب ليس فيها من التلاعبات اللغوية التي نجدها في نسخة يقظة فينيگان، ولا التعددية نفسها في المستويات السردية.
فالمخطوطة ليست نصًا بل (بروتوكولا) لعمل نص. وهي بالنسبة إلى جويس تمثل خطواته الأولى نحو (يقظة...).
في المخطوطة الأولى، يعرض لبعض سمات سلوك إيزولد. وملامح شخصيتها وعاداتها الشائعة، على سبيل المثال، عادة ترك أغراضها دائمًا في المكان نفسه، وطريقتها في تنظيف المدخنة أو تلاوة صلاتها، فضلا عن أنشطة أخرى، تملأ الصفحات الست من المخطوطة. فمن خلال نسخ صلاة إيزولد يقدم جويس، على سبيل المثال، العلامات الأولى لشكل الكتابة الذي سيعتمده في جزءٍ كبيرٍ من يقظة فينيگانز. وهكذا جاء تعزيز تمثيل الشفاهية في الكتابة، وكذلك البحث عن تعدد المعاني من خلال استخدام مفردات غير معجمية، لفتح المجال لعملية إبداعية فريدة.
تقدم المخطوطة الثانية، (تريستان وإيزولد)، بعض المعلومات عن صحة تريستان الهشة. وذكر مشكلات مثل عسر الهضم والبواسير وعاداته الوقائية من بعض الأمراض. كما تروي شحوبه المحموم في إشارة إلى الأعمال في أعالي البحار وتفكيره في الأشباح المقدّسة التي يحبها في حقبة الدراسة. ووفقًا للملاحظات التي قدمها فيريه، فإنّ المقطع في هذه المخطوطة المقتبس من إيزولد قد أملاه جويس وصاغته نورا بارناكل، زوجته، بسبب ما كان يعانيه من مصاعب في النظر.
في المخطوطة نفسها أيضًا، يصف العشاء بالتفصيل. بين التورية واللعب بالكلمات، فتختلط أسماء الأطباق بالمناقشات الأخرى. ثم يتطرق إلى التحقيق الذي كان يحققه تريستان مع ايزولد في شؤونها الخاصة؛ فقد كان يود أن يعرف ما إذا كانت قد غامرت يومًا ما بممارسة (الغرام السري). وهي تنفي بشدة أن فعلت ذلك: لم يقدمْ أي سارق على الإطلاق، ولم يسبق له أن رأى عجائب أقبيتي المئة من قبل (جويس، 2014، ص 74). فانتشى تريستان بسرور كبير من الإجابة، وهو يقرأ قصيدة على مسامعها. 
  وتتحدث المخطوطة الثالثة، (تريستان وإيزولد، القبلة)، عن لحظة تورط تريستان وإيزولد في ممارسة الحب. في قارب تحت جمال الشفق ومنظر البحر الجميل على وجه الخصوص، وقد شهد هذا القارب واحدة من أشهر حالات الفاحشة في تاريخ الأدب الغربي. وفي هذا المشهد يوفر جويس العناصر الإيقاعية التي تشير إلى لحظة إتمام الفعل وما آل إليه تريستان من نشوة.
أما المخطوطة قبل الأخيرة (الشيوخ الأربعة وقبلة تريستان وإيزولد)، فتبدأ بوصف الطيور التي كانت تسخر من الملك مارك، زوج إيزولد، لأنها لاحظت تورط تريستان وإيزولد. وقد صدحت بالغناء بكلمات: ثلاثة نصيحات نعيق للسيد مارك/ بالتأكيد ليس لديه الكثير في الحقيبة/ ومن المؤكد أنه بعيد كل البعد عن إثارة الانتباه/ وكان يبحث عن سرواله الملطخ في حديقة بالمرستون (جويس، 2014، ص 90) من المثير للاهتمام ملاحظة أن هذا المقطع تم تحريره في نسخته النهائية، مثل العديد من الفقرات الأخرى، وتم تضمينه في بداية الفصل الرابع من (يقظة فينيكَانز) كان التعديل هو استبدال كلمة caws»  “ بكلمة  quarks»”، وهو ابتكار جيوسي استعاره الفيزيائي موراي جيل مان لاحقًا للدلالة على الجسيمات الأولية المفترضة للمادة.
وتتكون المسودة الأخيرة، التي جاءت بعنوان، (Mamalujo) من الجمع بين الحرفين الأولين من كل اسم من أسماء المبشرين الأربعة، وهي مبنية في عدة مستويات سردية. يضاف إلى أسماء هؤلاء لقب يشير إلى شخصية تاريخية. وهؤلاء هم الشهود على، ما يحدث على متن القارب. ووصف لكيفية قيام الجميع بشحذ آذانهم وعيونهم أثناء التلصص على ما يحث، مع تدفق إيقاعي واستغناء عن استخدام علامات الترقيم. وتكرار لسلسلة من الكلمات والعبارات، غالبًا ما يعاد تكوينها قليلاً، مما يؤدي إلى ظهور مؤثرات صوتية جديدة. فضلا عن وجود لغات أخرى، وتورية، ومراجع، وموسيقى تلفت الانتباه كثيرا.