حارس الذاكرة العراقيَّة

ثقافة 2021/08/18
...

لؤي حمزة عبّاس
 
يشغل كفاح الأمين موقعاً مؤثراً في الثقافة العراقية، بالنظر لاهتمامه بالصورة الفوتوغرافية بوصفها مدونة الذاكرة البَصَرية التي يمكن من خلالها استعادة سردية الحياة على اتساعها وتعدد عوالمها، ذلك الشغف الذي جعل منه حارس الروح العراقيّة وموثّق مراحلها وهو يُعنى بما خلّدته عدسات مصوري الفوتوغراف من ارتسامات الروح على صفحات الوجوه، إنها لحظات الضوء وقد جسّدت أهم المشاعر وأكثرها إنسانية، مثلما وثقّت حياة العراقيين بتفاصيلها الدقيقة الحافلة. 
يقول كفاح في مقدمة كتابه (يوميات بغدادية) الصادر في العام 2013 «صورة واحدة تدفعك من فوهة العالم الملامس لسطح الصورة الفوتوغرافية، من فجوة صغيرة ومضيئة في بيت الذكريات إلى زمن هائل يضم ملايين اللقى البصرية»، إنه الإدراك الفاعل للخاصية الزمنية للصورة الفوتوغرافية، أكثر خواصها عمقاً وأشدها تعقيداً، فليست الصورةُ علامةَ زمنٍ زائلٍ، ولن تكون إشارةً لتوقف الزمان، بل إنها تستمد حيويتها من قدرتها على أن تكون علامةً لكل زمان، على الرغم من انبثاقها من لحظة زمنية محدّدة، لحظة الضوء التي توهجت في الماضي تواصل مسيرها في الحاضر متجهةً نحو المستقبل، لتحقق مع كلِّ استعادةٍ لها ولادةً جديدةً يمكنها أن تحكي الكثير عن زمنها الذي منحته الكاميرا فرصة التعبير المضاعف والبليغ بوصفها الوثيقة «الأكثر حضوراً وواقعية وإخلاصاً للزمن والمكان والانسان».
اهتم كفاح الأمين في كتابه، بالدرجة الأولى، بسردية الصورة الفوتوغرافية التي دوّنت تفاصيل الحياة البغدادية عبر عدسات أشهر مصوريها أمثال عبد الكريم تبّوني، عبد الرحمن الأهلي، عبوش، الدورادو، أرشاك، جعفر الحسني، محمد النورسي، محي عارف، جان بابان، نصر الله وغيرهم، إنهم مدونو الضوء الذين كان لهم الحضور الأعمق في المجتمع البغدادي، وقد شكّلت الصورة الفوتوغرافية منذ عشرينيات القرن الماضي ما يمكن أن يعدَّ (ظاهرة بغدادية) وهي تسرد حكايتها ليكون تاريخها مروياً وموثقاً، ما صرحت به الصورة وما سكتت عنه أيضاً، فالمدينة المتحضرة بحاجة لما يوثق تحضرها ويحكي حكاية الحياة فيها، الأمر الذي دفع كفاح لإضافة العديد من الوثائق غير الفوتوغرافية لكتاب يُعنى بالأساس بالصورة، وقد حمله شغف التوثيق على تعزيز ما تقوله الصورة على نحو شعري، استعاري الطابع، بما تتأسس عليه الوثيقة بأشكالها المختلفة (الرسمية، والشعبية، والصحفية، والسياحية، والتجارية وسواها) من خاصية كنائية تنشغل بتوصيف الحياة وملاحقة تفاصيلها، وهو ما منح الكتاب ميزة الشمول والاتساع وقد توزّع على تسعة أجزاء أهتمَّ كلُّ جزءٍ منها بعقد من عقود القرن العشرين، ابتداءً من العشرينيات حتى الألفية الجديدة. 
إن عناية كفاح الأمين بالصورة الفوتوغرافية وما تنشغل بكشفه وروايته، تمنح مشهد الحياة العراقية سمةً بانوراميةً تشكّل الروحُ البغداديةُ جوهرها المضيء وكينونتها الفاعلة، فليست بغداد مكاناً طارئاً وليست نسقاً هندسياً مجرّداً، إنما هي كما يراها كفاح ويعبّر عنها: «الدهليز وخبايا الضوء الساطع في آن واحد، الداخل المتماسك في المدينة المنفتحة، الوجود واللاوجود، والاحتكام إلى جدلية العلاقة بين الأبيض والأسود في الحياة العراقية كما في الصورة الفوتوغرافية». إن استعادة سرديات الصورة الفوتوغرافية بما تحمل من فرادة وجمال تعيد للمشهد البغدادي بعض روعته وتدافع عن الحياة فيه أمام قوى التخلف والهمجية
 والظلام.