المقومات التاريخية الفاعلة في النهضة الحسينية

آراء 2021/08/20
...

 د.ثناء محمد صالح 
يمثل الحدث العظيم أثراً كبيراً في التأريخ الإنساني، فالشخصية العظيمة تعبر في ذات الوقت عن الأثر الفعلي في وعي الإنسان. ولولا امتلاكها «النهضة» وصاحبها لكل مقومات التأريخ من حيث «العناصر، والاهداف والتأثير» لما بقيت هذه النهضة نابضة عبر التأريخ، ولما تناولها جمهور المهتمين بالتأريخ على مر الازمنة وفي كل البقاع.
 
اما اهم تلك المقومات التاريخية: 
1 - العناصر: تجسد الواقعة التاريخية زمانا ومكانا وفقا لشروط مادية ومعنوية.
بُعِثَ الرسول الكريم «صلى الله عليه واله وسلم» برسالة سماوية لتغيير الواقع الاجتماعي الجاهلي وبناء مجتمع اسلامي يتخذ الاسلام ومبادئه السامية مصدراً وحيدا في التشريع، ولم تمض على وفاته «صلى الله عليه واله وسلم» أكثر من خمسين عاماً حتى عاش المجتمع الإسلامي في ردة عن معالم الرسالة العظيمة التي قادها الرسول الأعظم محمد «صلى الله عليه واله وسلم». 
 شهد عصر الحسين عليه السلام الذي اقترن تاريخيا بالعصر الاموي حالات حتمت الجهاد ضدها منها:
1 - حالة الدكتاتورية التي مثلها السلطنة والسلطان الاموي.
2 -  حالة انهيار وانحطاط الاسلام وقيمه.
3 - التنديد بترف السلاطين والعلماء.
4 - بعث روح الجهاد والنضال. 
5 - الكفاح ضد تراجع المسلمين عن دينهم. 
وقد جاهد على صعيدين: الاول فكري من خلال تأكيد دور الدين في السياسة وايضا من خلال مواجهة الخارجين عن الدين، فالروح الاسلامية قوامها الجهاد الذي من دونه يحصل الذل والهوان، الواقع الاسلامي وما يتعرض له من انحطاط يحتاج الى قوة والقوة احد ركائزها الاساسية هي الجهاد والنضال وسريان هذه الروحية بين المسلمين.
 «ان الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأرقت الاشجار، أقدِم إذا شئت فإنما تُقدم على جندٍ لك مجنَدة». هذه اخر رسالة وصلت الامام الحسين عليه السلام من اهل الكوفة تعبر عن مدى استعدادهم لنصرة الحسين عليه السلام والقتال تحت رايته ضد يزيد بن معاوية الذي تسلم السلطة والخلافة. 
 وكان لزاماً على صاحب النهضة الجديدة ابطال أحدوثة المارقين على الشرائع السماوية ودحضها ليعود بالمجتمع الإسلامي إلى الإسلام المحمدي وتغيير الافكار والرؤى وتخليص القواعد والاصول الاسلامية من التحريف وانقاذها من التزييف، لذلك لم يألُ الامام الحسين «عليه السلام» جهداً إلاّ وسلكه لتكون نهضته تلك امتداداً لما قام به جده الرسول الأعظم محمد «صلى الله عليه واله وسلم»
2 - الاهداف: محدداً هدفه من تلك النهضة بقوله: «إن الحسين بن علي شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عنده، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب النجاح والإصلاح في أمة جدي محمد «صلى الله عليه وآله وسلم» أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي محمد «صلى الله عليه وآله وسلم» وسيرة علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والسلام عليك وعلى من أتبع الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
3 - التأثير: ففي شخصيته 
1 - كل المواصفات القدسية بنص حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». فهذه الصفة القدسية التي يمتلكها الحسين عليه السلام تدركها الأمة، خصوصاً مع وجود عدد غير قليل من الصحابة الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه، إضافة إلى ذلك فالإمام عليه السلام يمتلك عنصر النسب الذي لا تشوبه شائبة ولا يناله شك: أبوه علي عليه السلام وأمه فاطمة «عليها السلام» وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يتذكرون حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأنه: «حسين مني وأنا من حسين». يدركون هذا التمازج الروحي والتمازج النسبي، والحسين عليه السلام يملك الجاه والشرف، كيف لا وهو محط أنظار المسلمين وكهف المستغيثين واللاجئين، ويمتلك الإمام المال والثروة. فالحسين عليه السلام كان يمتلك كل المقومات الشخصية للقداسة، الشرف والجاه، الغنى والثروة، 
والعصمة.
2 - قوة الحجة: ولكي لا تكون الثورة هامشية، فلا تعطي ثمرتها المرجوة فقد كان الثائر يمتلك الوثائق الكفيلة بإضفاء المشروعية على هذه الثورة وإنها الحل الوحيد والخيار الذي لا بديل
 له.
3 - الشعار: ولكي لا تشوه هذه الثورة، وخصوصاً أن الإمام عليه السلام قد علم بخيانة أهل الكوفة، وكيف أنهم قتلوا رسوله مسلم بن عقيل عليه السلام وصاحبه هانئ بن عروة، وشردوا بقية الأنصار واعتقلوا قسماً منهم. إن هذه الصورة جعلت الحسين عليه السلام أمام مواجهة عسكرية لا مناص منها ولكي لا تشوه هذه الثورة- كما قلنا- فقد أعلن الحسين عليه السلام أهدافها وطرح شعاراتها، ابتداءً من المدينة حتى يوم المجزرة الكربلائية ليضع  الأمة أمام الخيارات التي لا مناص منها ليجعل من ثورته الأسلوب الوحيد أمام التحديات الكافرة، فبعد أن التقى الحر بن يزيد الرياحي رضي الله عنه قال عليه السلام: «هذه أرض الله واسعة فدعوني أذهب وشأني» أو ما يقارب هذه العبارة، وفي هذه الكلمة في أقل تقدير أن يترك الإمام عليه السلام يختار حياة العزلة، ولكن جيش الحر رفض التخلي عن أوامر السلطة الجائرة فجعجعوا به إلى كربلاء وهناك أيضاً وضع أصحابه أمام الخيار فلم يرد إقحامهم في معركة خاسرة من الناحية العسكرية، لذا جمعهم ليلة العاشر من المحرم ثم خطب بهم وقال: «إن هذا الليل قد أرخى سدوله فاتخذوه جملاً، ليس عليكم مني ذمام» ولقد رفض هؤلاء الأخيار هذا الطلب، حينما قام زهير بن القين فقال: «ماذا نقول للعرب- وفي رواية: لجدك صلى الله عليه وآله وسلم أيقتل ابن بنت رسول الله ونظل أحياء لا والله لا نفعل ذلك أبداً». وقال غيره مثل قوله.
ولما كانت المواجهة حتمية وأن السيف هو الحكم الفصل أصر الحسين عليه السلام على خوض هذه الحرب قائلاً: «إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني». وعلى كل حال فقد وضع الإمام الحسين عليه السلام أهداف الثورة أمام عينيه منذ حركته من المدينة حتى مصرعه في الطف، بل واصلت أخته الحوراء عليها السلام حمل تلك الرسالة، فكانت الوسيلة الإعلامية التي تذيع أخبار الثورة، والمعول الهدّام في العرش الأموي الحاكم.
4 - المقوم العاطفي: وهي عملية إثارة المشاعر في نفوس المسلمين الذين لم تحرك الأفكار المنطقية عقولهم ويلاحظ المقوّم العاطفي في الثورة الحسينية من خلال أسلوبين:
أولهما، إشراك العقائل من الهاشميات في الثورة بالإضافة إلى اشتراك الأطفال بالدرجة التي يساهم فيها رضيع ولد في اليوم العاشر من المحرم أثناء المعركة، فإن وجود نساء البيت العلوي ومخدرات الهاشميين في خضم هذه المحنة، لا بد أن يثير في النفوس العطف وفي القلوب الانكسار مهما كانت تلك النفوس متوحشة والقلوب قاسية، أما الأطفال فقد قدمتهم الثورة كدليل على أن هؤلاء القوم الذي يحاربون خوفاً وطمعاً قد بلغ بهم الأمر حينما نسوا الله فأنساهم ذكر أنفسهم، بلغ بهم الأمر حداً لا يوصف في الدناءة والوضاعة واللؤم، فلهذا خاطبهم الحسين عليه السلام بقوله: «إن كان الذنب ذنب الكبار فما هو ذنب هؤلاء الأطفال»؟. وبهذه المشاركة أضاف للثورة رصيداً عاطفياً ضخماً جعلها تحتل مركز القمة بين الفواجع على طول التاريخ وتحرك مشاعر المسلمين وعواطفهم وأحاسيسهم إلى يومنا هذا.
والأسلوب الثاني: هو أسلوب التذكير والوعظ الذي استخدمه الإمام عليه السلام وصحبه «رضوان الله عليهم» فلقد ذكر الإمام القوم بقوله: «انسبوني من أنا، ألست ابن بنت نبيكم؟» ثم يقول: «لما تحاربونني، ألسنّةٍ غيرتها أم لبدعة ابتدعتها؟»، وفي موضع اخر يقول: «إن لم يكن لكم دين وكنتم عرباً كما تزعمون فكونوا أحراراً في دنياكم» ذلك في إشارة منه للقوم حينما هجموا على بيوت عقائل الرسالة، إلا أنهم وصلوا حداً لم ينسوا دينهم فحسب، بل نسوا حتى أعرافهم العربية التي تعودوها وتسالموا عليها، ولهذا أيضاً نجد الإمام عليه السلام يصف حال الناس بقول: «والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون».
فثورة الحسين لم تكن تاريخية، لكنها عبرت عن حالة أمة، وصلت هذا الوضع المأساوي فأقدمت على جناية تاريخية بشعة.
 اذن من الضروري احتياج المجتمع البشري الى مصلح يسد زلته ويسدد زلته ويكمل اعوازه ويقوم أوده لتوفير دواعي الفساد فيه، فلو لم يكن في الامة من يكبح جماح النفوس الشريرة للعبت الاهواء بهم،وهذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده العارف بطهارة النفوس ونزاهته.ومن هنا جاء تكريسه لهذه الإرادة الحرة الحكيمة فكانت ثورة إصلاحية تدور في دائرة ثورة جده محمد «صلى الله عليه واله وسلم» من قبل، فكان ما قيل حقيقاً بالتصديق من أن «الإسلام محمدي الوجود حسيني
 البقاء». 
 واليوم تعود هذه الحالة من جديد، فهذه الأمة الإسلامية تعيش الوضع نفسه الذي عاشته الأمة في زمن الحسين عليه السلام، فلقد انحرف بها الحكام عن رسالتها وحضارتها وكيانها، وهذه الأمة تعيش الخوف والوجل ولا تفكر إلا بالنفس الصاعد النازل، فلا بد من هزة عنيفة توقظ وجدان هذه الأمة وتحرك ضميرها وتعيدها إلى رشدها، ولا بد أيضاً أن تمتلك هذه الهزة كل المقومات التي امتلكتها هزة الطف، قائد رسالي مقدس ذو جاه وشرف ومال، يمتلك الحجة الوثائقية التي تدين الحكام وتفضح انحرافهم عن الرسالة وتدين سكوت الأمة وخضوعها للذل والهوان، وعلى هذا القائد أن يطرح الشعار البديل الذي يوقد الجذوة الثورية في النفوس، ويحافظ على الجوهر الرسالي للثورة وبأهدافها الحقيقية، وعلى القائد هذا أن يحرك المشاعر والعواطف والأحاسيس عند هذه 
الأمة