غائب طعمة فرمان

ثقافة 2021/08/22
...

حميد المختار 
 

ما إن حطّت قدماي على أرض مطار موسكو حتى تراءت لي صورة الروائي العراقي الراحل (غائب طعمة فرمان) على الأفق الروسي المفتوح.. بعد ذلك بأيام وحين اتصلت بي قناة روسيا اليوم لإجراء حوار تلفزيوني التقيت هناك بالمترجم العراقي المقيم في موسكو (عبدالله حبّي)، وما إن انتهينا من تسجيل البرنامج حتى سألته عن المقبرة التي دفن فيها فرمان وكان الرجل خدوماً جداً ومتعاوناً، إذ قادني في اليوم التالي إلى المقبرة وكان قرب البوابة الرئيسة للمقبرة محلٌ لبيع الزهور اشتريت منه إضمامة ورد واتجهت إلى قبر أستاذنا (غائب طعمة فرمان)، أنا لم أقابله في حياته لكنني بعد كل هذا الزمن زرته ميتاً ومدفوناً في أرض بعيدة جداً عن أرض آبائه وأجداده وكنت في حالة من الرهبة كما لو كان الرجل حياً ينتظر زيارتي.. عاش فرمان حياة منسية طيلة ما بقي من سنواته في بغداد بسبب الاهمال الحكومي والتهميش البعثي المتعمد له ولكثير من أدباء العراق الذين عارضوا النظام بالكلمة والصرخة وأحياناً بالصمت وودعوا الحياة بخلسة وسرية وهدوء، غادروا وهم ناقمون على الأوضاع المتردية التي سببها تخلّف عقلية النظام المقبور للشعب العراقي عامة وللنخبة الثقافية خاصة.. غائب طعمة فرمان صوتٌ عالٍ في حركة سيرورة الرواية العراقية الحديثة، واسم شامخ لها حتى قال عنه (جبرا ابراهيم جبرا): «يكاد يكون فرمان الكاتب العراقي الوحيد الذي يركِّب شخوصه وأحداثه في رواياته تركيباً حقيقياً».. وقد كتب عنه الكثير من النقاد العرب والأجانب، لكن ثَم قول مهم للناقد العراقي الدكتور (زهير ياسين شليبة) وهو يتحدث عن رواية (النخلة والجيران): «انها أول رواية عراقية فنية تتوفر فيها مقومات النوع الروائي بالمواصفات الاوربية الحديثة».. وأنا أستطيع القول بل وأجزم أنّ غائب طعمة فرمان هو الروائي العراقي الذي أحدث نقلة نوعية وفنية في الرواية العراقية، إذ نقلها من المرحلة الواقعية الانطباعية مطلع خمسينيات القرن المنصرم وحوّلها إلى واقعية رصينة في فنها وتراكيبها وبنائها فأنتج رواية (النخلة والجيران) التي أسست لها زمناً فارقاً بينها وبين ما سبقها من روايات عراقية وأكْملَ حين كتب رواياته الأخرى (خمسة أصوات) وقد تحولت في ما بعد إلى فيلم عراقي مميز وكتب رواية (المخاض) و (القربان) و (ظلال على النافذة) و (آلام السيد معروف) و (المرتجى والمؤمل) وأخيراً رواية (المركب) التي ختم بها حياته في العراق عام 1989م ليغادر بعدها بذات المركب إلى المنفى الروسي البعيد حيث عاش ومات ودُفن هناك بعد أن تزوج بامرأة روسية، وكان بين رواية وأخرى يقوم بترجمة العديد من الروايات السوفيتية هو وبعض زملائه من المترجمين الذين أغنوا المكتبة العربية والعراقية بهذه الروايات التي توثق مرحلة مهمة من تاريخ الانسانية في روسيا السوفيتية، رحم الله الروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان.