مُقاربة قرائيَّة في عروض مهرجان العراق الوطني للمسرح

ثقافة 2021/08/22
...

  د. بشار عليوي
 
يُعد تنظيم (مهرجان العراق الوطني للمسرح) الذي اختتمت دورتهِ الأولى مؤخراً، دورة الفنان سامي عبد الحميد من قبل نقابة الفنانين العراقيين والهيئة العربية للمسرح، حدثا عراقيا غير مسبوق لضخامة الفعاليات وطبيعة الظروف على اختلافها التي سبقت تنظيمهُ والتحديات العديدة التي واجهتهُ، فأي مُتابع مُنصف لفعاليات المهرجان سيلمس حجم الجهد اللوجستي المبذول وعلى جميع المُستويات من أجل المهرجان ومشروعية حق المسرحيين العراقيين في المُمارسة المسرحية، فكُل الشكر لنقابة الفنانين العراقيين والهيئة العربية للمسرح على شراكتهما المعرفية التي قادت الى اقامة هذا العرس المسرحي العراقي الكبير.
شهدَ المهرجان وقائع مُلتقاهُ الفكري تحت عنوان (المسرح والمدينة) بشراكة مع المركز الثقافي لجامعة البصرة وبمُشاركة نُخبة من الأكاديميين الجامعيين العراقيين، لكن هذا المُلتقى هوَ في أساسهِ مشروع فني خاص بمدينة البصرة سبقَ وأن تمَ تقديمهِ من قبل المركز الثقافي برئاسة د.كريم عبود قبل سنتين بُغية تطوير المشهد المسرحي في البصرة، فضلاً عن الأوراق البحثية التي أُلقيتْ فيه هي في مجموعها بحوث جامعية باشتراطاتها العلمية البحثية ولا تُلامس واقع المسرح العراقي الحالي، كما أنها غيبتْ تيارا مسرحيا عراقيا عريضا وواسعا لهُ علاقة بالمدينة وفضاءاتها ألا وهوَ «مسرح الشارع والفضاءات المفتوحة». 
في عرض (ميت ميت) كُنا ازاء عرض مسرحي عراقي مُكتنز وهائل وباذخ فكرياً وجمالياً، فالعروض المسرحية المُجوّدَة في صناعتها ومُخرجاتها، هي من تُحقق أعلى درجات التواصل الفعلي مع المُتلقي وتبقى راسخة في ذاكرةِ مُتلقيها لسنوات وسنوات، وذات الوصف ينطبق على المُنتج المسرحي «ميت مات» لصانعهِ الحَذِق (علي عبد النبي الزيدي) انتاج: مشغل دنيا في الناصرية، تجسيد: محسن خزعل ومخلد جاسم، هذا عرض مسرحي حسِنْ الصَنعةِ نصاً ورؤيةً بصريةً وأداءً تمثيلياً، أربكَ ذائقة مُتلقيهِ وخَلخَل جاهزية التلقي لديهم حينما أفصح الدراماتورج «الزيدي” عن تَمكن واضح من أدواتهِ الرئيوية ليُنتج لنا صناعة مسرحية عراقية ستكون إحدى العلامات والإلتماعات المُضيئة والبارزة في المشهد المسرحي العراقي والعربي المُعاصر، في حين كانَ الأداء الهائل للمتصوف محسن خزعل والماهر مخلد جاسم، درساً بليغاً ومجانياً لجميع المُمثلين العراقيين والعرب، اذ أعلن لنا علي عبد النبي الزيدي وبصوت عالٍ عبرَ مُنتجهِ المسرحي هذا، أن مسرحنا العراقي كانَ وما زالَ وسيبقى مُترعاً بالعافية الثقافية. أما في عرض  (The Home) فهي محنة كبيرة أمام الناقد قبل أن تكون محنة المُتلقي في التعاطي نقدياً مع عرض فاضح ومُلتهب وضارب لكُل التابوهات بجميع تمظهراتها الاجتماعية منها والقيّمية والسياسية والآيديولوجية، فهل بإمكان أي ناقد مسرحي “عراقي” التغاضي عن محنتهِ (مرجعياتهِ الاجتماعية والفكرية كعراقي) هذهِ وهوَ يُقارب نقدياً عرض «The Home « ؟ . العرض تأليف: علي عبد النبي الزيدي (تبرأ لاحقاً مما قُدِمَ باسمهِ)، إخراج غانم حميد/مخرجاً، تجسيد محمد هاشم/ بيداء رشيد/ هناء محمد/ مظفر الطيب/ محمود شنيشل. وضعنا غانم حميد في قلب المحنة جميعاً من دونَ مُقدمات حينما شغلنا بأنساق مُنتج مسرحي “متطرف في متونهِ اللفظية” ولاهب يلسع كُل من يتعاطى معهُ، فإما إقصاء العرض عن الذائقة أو الإقصاء، هوَ هوَ ذات الخيار. أفصحَ المؤدي محمد هاشم عن قدرات أدائية مُكتنزة لشخصية (الرجل المهزوم الفاقد لكُل القيّم) بإيقاع مُتصاعد تناغمَ مع أداء بيداء رشيد التي كانت في أحسن حالاتها، وأداء هناء محمد ومظفر الطيب ومحمود شنيشل.
وكان عرض (Yes Godot) محاولة تقديم مقاربة عراقية لنص “بيكيت” عبرَ نمط العروض التي نسقها “أنس عبد الصمد” ضمن تيارهِ الذي أسماهُ (الميتا مسرح الصامت) ولهُ قصب السبق في ذلك، ولكن ثمةَ فوضى علاماتية لمُجمل مكونات الفضاء الوسائطي لركح العرض واجترار للعديد من المكونات الحركية، مع الإشادة بالاداء الحَسن للمؤدي (محمد عمر) يُشاطرهُ أدائياً (أنس عبد الصمد) والذي ما زال يُجذر لبصمتهِ الخاصة في مُجمل عروضهِ، وأعلن المهرجان عن ولادة طاقة تمثيلة نسوية تُعد إضافة جديدة للمسرح العراقي، تلكَ هي الممثلة (بدور العبد الله) في عرض “حدث في كل مرة” من البصرة. اذ أفصحت عن إمكانيات أدائية هائلة جسدياً وصوتياً مع مقدرة واضحة في الانتقالات السريعة بمختلف حالات الشخصية المؤداة، فنالت وعن استحقاق جائزة أفضل ممثلة لدور أول، أما عرض (اشتباك) لحازم عبد المجيد من البصرة، فكان أنيقا ومُنضبطا في جميع أنساقهِ حازَ على مقبولية واسعة، ولكن الأداء الموسيقي والغنائي داخل منظومة العرض قد طغى على باقي الاداءات وبشكل واضح مع التسليم بأن العرض لا ينتمي إلى المسرح الغنائي، اذ أعادَ الأداء الموسيقى لـ “علي مشاري” عبرَ هذا العرض، الثقة بالموسيقى المسرحية العراقية، وكانَ حضوره (تلحيناً وعزفاً) لافتا ومؤثرا ومحفزا لجميع المخرجين المسرحيين  .
لقد كانت قرارات «لجنة التحكيم» الخاصة بهذا المهرجان موضوعية ومُنصفة الى حدِ ما، ولهذهِ القرارات وللذوات اعضاء اللجنة، كامل الاحترام والتقدير، ولكن، ثمةَ عُرف مسرحي جرى اتباعه وسياق معروف، يستلزم في حالة منح جائزة (أفضل عرض متكامل) فإنهُ يتم حجب بقية الجوائز عن العرض الممنوحة لهُ، فـ (أفضل عرض) تعني ان عناصره قد تكاملتْ مع بعضها البعض مما يستوجب منحه الجائزة، وهذهِ الجُزيئة يبدو أنها غابت عن اللجنة، مع كامل الاحترام لها، أما الجلسات النقدية الخاصة بعروض المهرجان، فقد كانت ثرية ومُكتنزة شهدت نقاشات وحوارات معرفية أضافت لأسهم نجاح المهرجان، الكثير، يدعونا الى المطالبة وبُغية بث الحياة في(رابطة نقاد المسرح) بشكل مُستدام ومواكبة التطورات الكميّة والكيفية الحاصلة في المشهد المسرحي العراقي، بضرورة إعادة هيكلة الرابطة عبر تجديد دمائها بالأسماء النقدية الشابة وعدم الاتكاء على أسماء محددة بعينها ومنذ 30
عاما والى الآن.