موسيقى جامحة في رام الله

بانوراما 2019/02/25
...

ميغان تاونسند  
ترجمة: مي اسماعيل 
ما الذي يمكن أن يعنيه اطلاق أول منصة اذاعية "بويلر رووم- Boiler Room" لبث حفلات الموسيقى الحية في الاراضي الفلسطينية، (Boiler Room = منصة بث الموسيقى العالمية عبر الإنترنت، لنقل جلسات الموسيقى الحية. المترجمة) بالنسبة لمشغلي دي جاي "DJ" ومنتجي الموسيقى، وللجمهور هناك. 
تقول "سما" (وهي من رواد انشاء فرق الدي جي في الضفة الغربية) على خلفية موسيقى "التكنو- techno" الالكترونية الصاخبة، التي تتناقض مع واقع الشوارع التقليدية الهادئة: "لا يأتي زوار كثيرون الى فلسطين؛ فليس من السهل الوصول الى هنا. يشعر الجميع أنهم في منطقة حرب؛ لذا لا نجد كثيرا من الحضور.. فنحن لسنا في برلين؛ مثلا..". 
لا تكاد أخبار الارض الفلسطينية المحتلة تغيب عن نشرات الاخبار؛ مبتلاة بتهديدات الهدم والاشتباكات العنيفة مع القوات الإسرائيلية والاضطرابات السياسية.. لكن ذلك كله يبدو بعيدا وسط هذا الفناء المشمس في مدينة رام الله. لا يبدو أن المجتمعين معنيون بتطورات الانباء؛ فهذه أولى مناسبات البويلر رووم: منصة الموسيقى (غير المرخصة) الأكثر مشاهدة في العالم، التي تبث اليوم من الاراضي الفلسطينية. بدأ الحفل ببث "مجموعة الجاز" من حيفا؛ وهم جمع شبابي بملابس زاهية عصرية.. ولا يبدو الموقف أشبه بمنطقة حرب؛ بل حفل مبهج.. 
 
"فلسطين المستترة"
يحمل قرار بث الموسيقى من رام الله دلالة مهمة للفلسطينيين؛ معترفا بعمق الموهبة التي تخرج من المنطقة، ومساهما بمحاربة الصورة النمطية عن الضفة الغربية بأنها منطقة محافظة غير علمانية مثقلة بالارهاب ولا ينبغي الذهاب اليها. وكان البث من الضفة الغربية واحدا من أكثر مناسبات البويلر رووم شعبية لسنة 2018؛ وحقق موقع "سما" نحو مليون ونصف مليون مشاهدة على يوتيوب. والأهم من ذلك كله أنه جمع موسيقيين من مناطق منفصلة فيها فصائل فلسطينية متباعدة؛ فهناك من جاء من الضفة الغربية، حيث نشأ متحدثا بالعربية، فلا يستطيع التجول داخل اسرائيل بحرية. وهناك فلسطينيو اسرائيل؛ الذين يكافحون غالبا للاتصال مع مشهد الضفة الغربية عبر قنوات تتعدى مشاهدة اليوتيوب.  
لا يعني تنظيم حفل موسيقي يجمع أفضل وألمع نجوم الموسيقى من منطقتي فلسطين كلتيهما مجرد تقييم للمواهب الموسيقية؛ وإنما هو، من الناحية العملية، يقيم جسرا يوحّد المجتَمَعين الذين فصلتهما الجغرافيا والثقافة منذ عقود. تقول الموسيقية "ماكيماكووك": "كان هناك انقطاع كبير بين المدن الفلسطينية لفترة طويلة جدا، لكننا في النهاية شعبٌ واحد؛ فكلنا فلسطينيون وثقافتنا واحدة". يضم فريق ماكيماكووك عددا متساويا من الشباب والشابات، يتمايلون على نغمات عدد من الاصوات؛ فهناك القليل من الطبول والايقاعيات، وصوت الربابة العربية التقليدية، وموسيقى طبول من برلين، تختلط جميعا في تناغم آلي يبدو مألوفا وغريبا في الوقت نفسه .
تقول المخرجة البريطانية "جيسيكا كيللي" التي عملت مع فريق البويلر رووم، وصورت الفيلم الوثائقي "فلسطين المستترة" (بعد حفلة رام الله الاولى): "يفترض الكثيرون في الغرب أن الثقافة الفلسطينية محافظة جدا؛ وأن النساء والرجال لا يختلطون ولا يحبون الحفلات ولا يعيشون بحرية. بالطبع تبقى القيم المحافظة مسيطرة في الضفة الغربية؛ لكن فيلمنا أظهر واقعا مختلفا يغاير الصورة النمطية كثيرا". 
ومن الجدير بالملاحظة أنه، وخلال البث الاول للحفل عبر الفيس بوك؛ ترك الكثير من المشاهدين عددا من تعليقات تسأل عن موقع الحفل، مصرين على أنه لا يمكن أن يكون فعليا في رام الله؛ مركز المقاومة وأكثر مدن الضفة الغربية اكتظاظا بالسكان. يمكن القول ان هذه المدينة هي عاصمة فلسطين الثقافية؛ ومركزا لتناول الطعام الفاخر والفنون والحياة الليلية.. وهي المدينة التي تقطنها عشرات الآلاف من السكان تلك لديها تأثير واسع المدى على الفلسطينيين، حتى من قبل الاحتلال الاسرائيلي. يتحدث فيلم "فلسطين المستترة" عن هذا الجانب من رام الله؛ مقدما شوارع مزدحمة وعائلات تسير عبر الطرقات تحت ضوء الشمس؛ بدلا عن الاطارات المحترقة والاحتجاجات الجماعية. هنا تظهر رام الله مثل أي مدينة متوسطية لطيفة اخرى، يعيش سكانها حياتهم اليومية، فيها اشجار نخل واعلام تشجيع فرق كرة القدم تتدلى من الشرفات.. لا تبدو هنا مدينة تغلي؛ بل أرضا خصبة تنتج الابداع..  
 
بث أصوات المدينة
تقيد الامكانات المحدودة من انطلاق المشهد الثقافي لمدينة رام الله؛ إذ تقام أغلب الفعاليات داخل منازل خاصة أو أماكن صغيرة. تتحول بعض المطاعم الصغيرة ليلا الى نوادي؛ يشغلها عدد قليل من الافراد المتحمسين ومشجعيهم الملتزمين. وهم هنا يعبرون عن شغفهم بأنواع من الثقافة المستترة أو منابر للتعبير عن الاحتجاج. 
منذ عدة سنوات أصبحت فنون الهيب- هوب الصوت المستتر الأكثر انتشارا عبر المدينة؛ وأكثر شخصياتها شهرة مغني الراب ومُشغّل الدي جاي "مقاطعة"؛ الذي قدم أصواتا متميزة مستوحاة من ضجيج الشارع. فهو يسجل أصوات مركز المدينة (أعمال البناء، ضجيج السوق ونداء الباعة، ثرثرة محال الحلاقة وصياح الاطفال وسط الملاعب). يقول مبتسما: "هذا صوت رام الله.. تتعرض ثقافتنا تدريجيا للإزالة والسرقة.. نحن نفقد طعامنا وملابسنا وموسيقانا. وبالنسبة لي فإن إعادة استخدام أصوات من حياتنا وثقافتنا يعني إبقاءها حية تقاوم الازالة". لاحقا يمزج "مقاطعة" أصوات الشارع مع ايقاعات الكترونية ويغني معها الراب تحت توقيع: "أصوات من رام الله"، التي اصبحت من علامات الموسيقى الفلسطينية.
بدأ "مقاطعة" (المعروف بالأب الروحي للهيب هوب الفلسطيني) بغناء الراب سنة 2007 مع مجموعات من شباب رام الله؛ لكنه شعر أن الموسيقى التي قدموها كانت بعيدة عن الضفة الغربية، وأكثر قربا من الموسيقى الاميركية وحركات الهيب هوب العربية الاخرى. فبدأ سنة 2009 بالعمل مع مجموعة "صليب واحد" الجديدة؛ التي تضم مغنيي الراب- "داكن"، "جلمود"، "هيكل"، "النذير"، وكانت أول شابة موسيقية واعدة في الضفة الغربية هي "ماكيماكووك". تتداخل موسيقى المجموعة مع كم كبير من النماذج الموسيقية العربية القديمة والموسيقى الالكترونية. وتجتمع الهوية الثقافية في الكلمات؛ وان لم تكن سياسية أو متحدية على نحو الخصوص.. لكنها أحيانا ساذجة وتحفل بالاشارات الشخصية وأمثلة خاصة بالمدينة ولهجتها المحلية. 
 
ردم الهوة..
يُصر "مقاطعة" على أن حركة الهيب هوب في رام الله متأثرة كثيرا بالسياسة والحاجة للتغيير: "نحن نعيش وسط وضع سياسي راكد؛ لذا نحن نحتاج الى هذا النوع من الترفيه"، كما أن الهجوم على "المؤسسة" ليس أمرا يجدر القيام به بصورة مباشرة؛ كما تقول "ماكيماكووك" ضاحكة: "انه تحرك ماكر؛ فنحن نقاوم لأجل إبقاء ثقافتنا حية، والاستمرار بخلق اشياء جديدة وحيوية ومثيرة للانتباه. لدينا هنا فنانون يمزجون موسيقى التكنو مع الموسيقى التجارية العربية. ورغم ان الامور تبدو كئيبة سياسيا؛ لكنه وقت مشوق بالنسبة لرام الله". 
تلك المقاومة المستترة نالت شعبية ليس فقط عبر الضفة الغربية؛ بل ضمن باقي المناطق الفلسطينية.. وحتى لدى الاسرائيليين. فقد نشرت النسخة الانكليزية من صحيفة "هآريتز" الاسرائيلية مقالا عن شعبية الهيب هوب الفلسطيني داخل تل أبيب؛ مسلطة الضوء على نجوم الموسيقى الصاعدين من رام الله والناصرة وحيفا.  
تلقى بث الحفلة الموسيقية الاولى تعليقات ايجابية كثيرة من اسرائيليين؛ كما تقول "ديبورا ابيكيل" (المبرمجة والمنتجة المساعدة لفيلم "فلسطين المستترة"): "لعل الكثير من الناس شعروا بالدهشة لرؤية جانب مختلف من فلسطين. كتب أحدهم: "حب كبير من اسرائيل! لعلنا نستطيع يوما أن نعيش معا بسلام ووئام. الأجواء مدهشة جدا، أتمنى لو استطعت زيارة رام الله ذات يوم واحضر حفلة أو اثنتين". 
اما بالنسبة لفناني رام الله فإن هذا الموقف يحرك الجمود ويعطيهم الدافع للاستمرار.". قد يمتد تأثير مجموعة "صليب واحد" بعيدا؛ لكنهم لم يقدموا فنهم خارج الضفة الغربية حتى الآن.. يؤكد "مقاطعة" ذلك رغم امتداد مهنته لما يزيد عن عقد من الزمن: "لم أستطع أبدا تقديم عروضي داخل "اسرائيل". تدعوني مجموعات فنية اخرى لتقديم حفلات في حيفا منذ أربع سنوات، لكنني لم أحصل على الموافقات لدخول المدينة، رغم أنني أصلا من تلك المدينة".  
 
الاندبندنت البريطانية