التأثير المتبادل بين الإنشاد الديني والغناء الدنيوي

الصفحة الاخيرة 2021/08/24
...

 سامر المشعل 
رافقت الموسيقى والغناء الانسان منذ وجوده على وجه الارض، وكان يستعين بهما في كل فعالياته الحياتية في مواجهة خطوب الحياة، وفي استرضاء الالهة والتضرع الى السماء، والخطر الذي يهدده من غضب الطبيعة كالفيضانات والعواصف، وفي الافراح مثل الزواج والختان والخصب وجني الثمار، كذلك كان يستخدم الغناء في المراثي والندب على الموتى وتفريغ حالة الحزن والغضب والخوف بداخله..الخ.
وانقسم الغناء الى ديني ودنيوي منذ الحضارات القديمة، ولم يكن هذا التقسيم وليد العصور الحديثة، مثلما اشارت النصوص السومرية الى ذلك، فالمغنون كانوا ينقسمون الى نوعين:
النوع الاول ويدعى «نار ـ nar» باللغة السومرية، وهو المتخصص بالغناء
الدنيوي.
اما النوع الثاني فيدعى «كالا ـ gala» وهو المتخصص بالغناء الديني الحزين.
ويشير بعض الباحثين في مجال الموسيقى الى أن كلمة «الكوالة أو القوالة» مستمدة من التسمية السومرية «كالا gala» أو باللغة الاكدية «kala» وقد عرف هذا النوع من الغناء لدى النائحات السومريات، كما أكد  ذلك الباحث الدكتور فوزي رشيد قائلا ان النصوص المسمارية قد عرفتنا الى نوع من الالحان الحزينة  اختصت النساء في تأديته وكان يستخدم بشكل خاص في المآتم والمناسبات الحزينة، ودليل ذلك هو أن المرأة التي تؤدي هذا النوع من الالحان تدعى باللغة السومرية «ama – Ir – ra» وباللغة الاكدية «umm u bikatti» وتعني حرفيا «أم البكاء» أي المرأة الخبيرة في استنزال دموع الآخرين.
لاسيما اننا نتحدث عن منطقة هي موجودة حاليا في جنوب العراق في محافظة ذي قار، وتحديدا في مدينة اور عاصمة الحضارة السومرية. 
وهذا يشير بوضوح الى امتداد هذه الحضارة بما فيها من ارث معنوي ومادي الى يومنا هذا، لاسيما ان صفة الحزن ظلت ملازمة لمنطقة وسط وجنوب العراق، وباتت طبعا مترسخا بطبيعة الشخصية العراقية كقدر وجودي، من خلال ما تلاقيه من وجع وخوف وظلم نتيجة الحروب والغزو والاقطاع والامراض والاستبداد السياسي، ولعل الجرح الاكبر الذي ترك آثاره في نفسية ووجدان الفرد العراقي هو يوم عاشوراء، ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي عليهما السلام في كربلاء، وظلت هذه الذكرى تتجدد كل عام، وهي ترسم ملامحها الحزينة في الحداد بمراسيم العزاء والردات والتشابيه وغيرها من الفعاليات الحزينة.
 
التأثير المتبادل
الفرح والحزن عاطفتان انسانيتان يحتاجهما الانسان في مسيرة حياته، ويميل الانسان الى الابتهاج والفرح ويحتاج الى أن يرقص ويعبر عن مشاعر الفرح بداخله في اوقات الزواج والولادة والختان والتخرج وغيرها من المناسبات السارة، وكذلك يحتاج الانسان الى الحزن، عندما يفقد انسانا عزيزا على قلبه مثل الاب أو الاخ أو الزوج والحبيبة أو في المعابد والاماكن المقدسة أو في حالة حدوث الكوارث الطبيعية وغيرها من المناسبات الحزينة
والمآسي.
لذلك انقسم الغناء الى ما هو حزين وآخر يستخدم في المناسبات السارة، ومثلما اشرنا سابقا الى ان الغناء انقسم الى ديني ودنيوي منذ العصور القديمة.
لكن في بعض الاوقات، نجد ان الغناء العاطفي يتجه نحو الغناء الديني، ويغرف من نبعه ويسرق الالحان ويتحايل على المستمع بتغيير مفردات النص، من الديني الى العاطفي! وفي اوقات اخرى، نجد العكس أن الغناء الديني يتطفل على الغناء العاطفي ويسرق منه الالحان، ويعمل بعض المنشدين على توظيف الكلام المناسب ليتلاءم مع الانشاد الديني! فمن يتأثر بالآخر ويسرق منه؟.
هذا السؤال جعل الكثير من المعنيين بالموسيقى والغناء يقعون في حيرة من امرهم، فمن يتأثر بالاخر ومن يسرق من الاخر؟!.. للاجابة عن هذا الموضوع اقول: هناك نظرية تقول «عندما يقوى الغناء الديني ويضعف الغناء العاطفي، فالاخير يأخذ ويغترف من الغناء الديني، والعكس صحيح، عندما يقوى الغناء العاطفي ويضعف الغناء الديني، فالاخير يأخذ من الغناء العاطفي ويعمل على توظيفه لاغراض دينية». 
وسوف اوضح هذه الجدلية ضمن السياق التاريخي والعلمي لهما.
 
عبقري الألحان الدينية
قبل مئة عام سطع نجم عبقري الالحان والانشاد الديني ملا عثمان الموصلي، وهو موسيقار عراقي من مدينة الموصل، قدم الى بغداد واخذ ينشر موهبته والحانه، ثم طبقت شهرته الآفاق، وكانت تأتيه دعوات من تركيا ومصر وسوريا، وتأثر بالحانه كل من التقى به من الفنانين والملحنين والقراء ومنهم الموسيقار سيد درويش وكامل الخلعي وعبدة الحمولي ومحمد القبانجي وآخرون.
ولمعرفة مدى قدرته على الابداع سنتطرق الى جملة من الاغاني العاطفية التي اقتبست من ابتهالات وتنزيلات ملا عثمان الموصلي ونذكر منها أغنية «زوروني كل سنة « التي غنتها السيدة فيروز، و «فوك النخل فوك» التي غناها ناظم الغزالي، و»خدك المياس» التي غناها صباح فخري، و «عالروزنه» التي غناها صباح فخري ايضا، و «ربيتك صغيرون» التي غنتها صديقة الملاية، واغنية «يا عذولي» التي غناها الكثير من المطربين في العراق وسوريا ولبنان. وغيرها من الاغاني، التي كانت بالاساس من الحان الموسيقار الكبير ملا عثمان الموصلي، وتم تحويل كلامها فقط الى عاطفي.
 
الردات الحسينية وتأثيرها
يتفرع الغناء الديني الى عدة انواع منها: المناقب النبوية والانشاد الصوفي والغناء الكنسي والردات الحسينية، أو ما يعرف بالعراق والكويت بـ «اللطميات».
وفي كل عام تقام مراسيم العزاء الحسيني في العراق بشهر محرم، وتتركز هذه الطقوس في مناطق الفرات الاوسط والجنوب، فتتشح هذه المناطق بالسواد والحداد حزنا على استشهاد ابي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام، وتقام مواكب العزاء ويقرأ الشعراء قصائدهم ويتلو الرواديد الحانهم ويجري تجسيد واقعة الطف مسرحيا بالساحات العامة، التي تعرف شعبيا بـ «التشابيه « وتذرف الدموع حسرة على الظلم الذي وقع على سبط الرسول عليه الصلاة والسلام.
هذه الطقوس توغلت في نفوس المسلمين الشيعة بشكل مباشر أو غير مباشر، واثرت الاصوات الشجية والحزينة مثل عبد الزهرة الكعبي وحمزة الصغير وغيرهم، في التكوين الذوقي لابناء هذه المناطق.
عندما تبلورت الموهبة الشعرية واللحنية والغنائية لدى مجموعة من الشباب الذين درسوا في المعاهد الاكاديمية، قادمين من مناطق الفرات الاوسط والجنوب، وجاؤوا محملين بالارث الحسيني من حيث يعلمون أو لا يعلمون واظهروا موهبتهم الفنية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، وجاءت الالحان والاغاني تحمل في طياتها النفس الحسيني، ومنسجمة مع هذا الارث المتوارث بالحزن، على الرغم من أن بعض الشباب كانوا يحملون الافكار اليسارية والشيوعية، لكن تسللت واثرت في ذائقتهم ووجدانهم النبرة الحسينية.
عندما نتأمل عددا كبيرا من الاغاني العاطفية في السبعينيات من القرن الماضي، نجد فيها النفس الحسيني باللحن والايقاع مثل أغنية «المكير» للملحن كمال السيد، من مدينة الناصرية، وأغنية «غريبة الروح» للملحن محسن فرحان، المشبع بالنغم الحسيني فهو من مدينة كربلاء، ونجد النكهة الحسينية واضحة في الحان الملحن محمد جواد اموري ابن مدينة طويريج في العديد من اغانيه مثل : «رديت، مرينا بيكم حمد، على شط الفرات، تواعدنا «، ونجد النبرة الحسينية ذاتها واضحة بالحان كوكب حمزة، القادم من محافظة بابل بأغان مثل «يا نجمة، ابنادم، ويل يالمحبوب» وغيرها.
يذكر الملحن الكبير كوكب حمزة، أنه عندما لحن أغنية «يا بنادم» التي غناها الفنان حسين نعمة، كان في العاشر من محرم، وكانت مدينة القاسم وهي ناحية تابعة لمحافظة بابل تتشح بالحداد ومواكب العزاء تجوب ارجاء المدينة، يقول «كنت الحن والدموع تنهمر من عيني»، فقد كان كوكب حمزة تحت سطوة العاطفة الحسينية، وقد ادخل في أغنية «ابنادم» الايقاعات المستخدمة في مواكب العزاء الحسيني، فجاءت الاغنية مثقلة بالحزن الكربلائي ولم تخرج عن هذا
السياق.
 
الرادود والمغني
نستنتج مما سبق ان الغناء السبعيني، تأثر بالطقس الحسيني ولم تخرج الكثير من الاغاني من النسق ذاته في الالحان، لاسيما أن الغالبية العظمى من مبدعي الاغنية العراقية  ينتمون الى منطقة الجنوب والفرات الاوسط، ليس هذا وحسب وانما الكثير منهم تأثروا بهذا الجو وامتهنوا هذه المهنة «الرادود» وشاركوا ببعض المناسبات، ومنهم على سبيل المثال رائد الغناء الريفي داخل حسن، والمطرب جبار ونيسة، والمطرب ياس خضر، والفنان سعدي الحلي، والفنان سعدي البياتي، والفنان كمال محمد، والفنان قحطان العطار..
 وغيرهم.
وعلى المستوى الاجتماعي، فان الرادود يحظى بمكانة مرتفعة بالمجتمع ويعد ما يقدمه امرا يثاب عليه وعملا مباركا بأن يسخر صوته وموهبته لخدمة الامام الحسين عليه السلام، على العكس من ذلك ينظر الى المغني نظرة دونية، ويعد ما يقدمه من فن عيبا اجتماعيا، لذلك المجتمع يشجع ويقدر الرادود ويسلب هذه المكانة من الفنان والمغني.
 
الحزن الكربلائي
طقوس العزاء الحسيني تركت آثاراً عميقة في بنية الاغنية العراقية، وفي ذائقة المستمع العراقي، لذلك تميزت الاغنية العراقية بطابعها الحزين والوقور، ولعل هذه الصفة هي التي ميزت الاغنية العراقية عن سائر الاغاني العربية، ودفعت موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب، الى أن يقول كلمته الاثيرة بشأن الاغنية العراقية :»كل الغناء العربي يدور في فلك الاغنية المصرية، باستثناء الغناء العراقي، فان له خصوصية بالاداء».
يذكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي رأيه بالغناء العراقي الغارق بالبكائية بالقول «حين ندرس الاغاني العراقية ولا سيما البغدادية منها نرى طابع الحزن والعويل غالبا عليها، فهي جنائزية على الاكثر ومملوءة بالشكوى من الدنيا وسوء الحظ والشعور بالخيبة والالم..».
 
الغناء السبعيني
ظهرت الاغنية السبعينية بقوة على ساحة الغناء، واكتسحت الذائقة السمعية، من خلال مقومات الابداع التي تكتنفها من كلام ولحن وقوة اداء، الامر الذي جعل الغناء الديني يقع تحت سطوتها ويتأثر بها وخصوصا في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، فاقتبس المنشدون والمداحون وقراء الطرق الصوفية الكثير من الالحان السبعينية وتم تغيير كلامها لتتلاءم مع الانشاد الديني بمناقب مدح الرسول وآل بيته عليهم السلام.
لكن منذ فترة التسعينيات من القرن الماضي وحتى الان شهد الغناء العاطفي ضعفا في اللحنية، الامر الذي جعل عددا من الملحنين يتجهون الى السرقة والاقتباس من الغناء الديني وبالاخص من الانشاد الحسيني، ويتم تحوير الكلام الى عاطفي من خلال اعداد كلام مناسب للحن جاهز. 
 
تداخل الديني بالدنيوي
الملاحظ في السنوات الاخيرة أن هناك تداخلا وتشابكا كبيرا بين الغناء الديني والدنيوي، وهذا ناتج من أن الانشاد الحسيني خرج عن الصيغ التقليدية في خطابه، واخذ يتجه نحو الالحان العاطفية ويقلدها من أجل الشهرة والتأثير السريع بالمستمعين. 
فبعد التغيير الذي حصل بالعراق بعد العام 2003 وبفضل حرية ممارسة الشعائر الحسينية ووجود الاحزاب الاسلامية التي أسست العديد من الاذاعات والفضائيات والمجالس، ما شجع الكثير من الشباب على دخول ميدان الانشاد الديني واصبح الرواديد ينتشرون بكثرة ويتنافسون على تقديم انشادهم وقصائدهم.
بدأت الردات الحسينية تخرج عن اطارها السابق وتنحى باتجاه الايقاع السريع والتقطيع بالالحان وتقترب كثيرا من الغناء العاطفي، ومن اوائل من فتح الباب امام المنشدين الشباب هو الرادود باسم الكربلائي الذي كان له التأثير الكبير في من جاء من بعده، بطريقة ادائه التي تتسم بالحداثة والتلوين الادائي وامكانية صوته الواسع والمؤثر. 
وثمة ظاهرة غريبة ظهرت على الساحة الاعلامية بالآونة الاخيرة، وهي أن المغنين أخذوا يقدمون اللطميات والردات الحسينية بقالب غنائي، والرواديد يقدمون قصائدهم الحسينية بالحان عاطفية! وهذا يكشف عن ضعف عند الاثنين معا، وعن تطفل عن غير وعي، ولابد من التوقف عند هذه الظاهرة بامعان، وغربلة الساحة من الغث والسمين، وان يأخذ المعنيون بهذا المجال دورهم في تثقيف وزيادة الوعي لدى المنشدين والقراء لاعادة النصاب الى مكانه الصحيح بغية تقديم كل فن بموضعه الصحيح
 والهادف.