د. ماهود أحمد: شعريَّة الواقع وأسطورة التاريخ

ثقافة 2021/08/24
...

 ناجح المعموري 
 
 تثير تجربة الفنان ماهود احمد كثيراً من الاختلاف وخصوصاً بين الفنانين والنقاد، ويتأتى الاختلاف من المشهد النقلي في لوحاته التي تبدو وكأنها تصوير مباشر، فيه شيء واضح من الحدة والقوة، مثلما فيه الشفافية والتخييل الذي يفتح مجالا لتأويل لوحاته/ نصوصه.
إنّ تجربة ماهود احمد لا تشبه غيرها أبداً وخصوصاً في الاقتراب من الواقع والغور في التاريخ/ والاسطورة. الواقع بكل شفافيته وقوته وشعريته، لدرجة تبدو أعماله مثل قشرة خارجية، لها وظيفة قيادة المتلقي لمعاينة ما هو كامن تحت القشرة الخارجية/ السطحية، وهنا تتكشف لنا مجالات بعيدة وعميقة جداً. 
إنّها مجالات التاريخ والحضارات البرية بكل زخمها الاسطوري/ الشعري، إذ لا ينسى الفنان ماهود احمد ترحيل الملاحم المميزة لإنسان الجنوب وأشكال الوجوه المدورة. الوجوه والعيون السومرية الواسعة التي خلفتها لنا الحضارة السومرية. وهو بذلك لا يعيد صياغة المدار الحضاري السومري وإنما يوقظه، لأنه كامن في وعيه الداخلي وراسب عميقاً في الذاكرة الفردية والجمعية. إنه يسحب ذاكرة التاريخ الازلي ويصوغه بروح معاصرة فيها كثير من الملامح القديمة وهذا ما يميز وجوه شخوصه وسماتهم الدقيقة/ القاسية. تلك الملامح التي تبدو للمتلقي متماثلة، لكنها متغايرة وسبب ذلك هو القشرة الخارجية التي اشرنا لها، وملاحظة وجوه النسوة في لوحته/ نصه «الوشم» سنكتشف التماثل/ الاختلاف والتأمل واكتشاف الجسد ومعرفة الفتنة الراسبة والظاهرة. الفتنة والسحرية المغطاة والتي اكتست بحجاب، صانها حجاب الأنوثة الأزلي، الذي عرفته قبل الذكورة، وهذا ما أشارت له التوراة/ سفر التكوين «الخطيئة الاولى» وكذلك ملحمة جلجامش. وما حصل بين كاهنة الرغبات وانكيدو وكذلك في أسطورة إدابا: إنَّ الفنان ماهود احمد، يخترق الحجاب وينزعه، ويقدم الانوثة باعتبارها جسداً وخطاباً منتجاً للخصب والانبعاث. 
لذا تقترح لنا لوحة/ نص الوشم تأويلا مفرطاً للغاية، حيث النوم على البطن واخفاء مكان الخصوبة والعلامات المرتبطة معها ــ الصدر ــ ويكشف للمتلقي منطقة المتعة المحظورة، انه يفضح هذه المتعة وبصورة صادمة للنسوة الملتفات حول المرأة الوشامة. والوجوه المدورة والعيون الواسعة، مراقبة فقط، حاملة سأمها وجزعها من انتظار، او قلقها وهن جالسات ينتظرن دورهن في الحكي والترفيه، او 
في حلول فرصتهن لابتداء الوشم. 
 
القسمات الحادة التي زاحمت فيض الأنوثة
 لوحة/ نص الوشم أكثر أعمال الفنان ماهود أحمد إثارة للاختلاف، حيث تبدو نقلا للموروث الشعبي المرتبط مع المرأة والجمال، لكننا يجب ان نتعامل معها باعتباره خطاباً مضاداً للخطاب الذكوري الذي يحاول تحييد الذكورة والابقاء عليها ضمن حوار متبادل مع الانوثة، باعتبارها سلطة لكنها سلطة الثقافة والمعرفة التي حازت عليها منذ ابتداء المراحل الحضارية الاولى. 
والجسد الأنثوي الموشوم، جسد بإمكانه أن يلعب دوراً خطيراً من خلال العلاقة مع الذكورة التي سعت منذ الأزل الى صياغة ذلك الجسد كخطاب للرغبة فقط. والدور الذي بإمكان الأنوثة أن تلعبه، هو الحياة/ الإبقاء على الانبعاث والتجدد. إنه الخصب، نظام الحياة من أجل الابقاء عليها، هذا ما تريد التمركز عليه والاشارة له اعمال ماهود احمد، لكنها لا تتجاهل الرغبة/ الجنس، وإنما جعلتها مهيمنة بارزة، أسست مجموعة من العلاقات. الجنس باعتباره احد اهم العناصر التي رسختها الحضارة العراقية القديمة. حضارة الأهوار والمحيط المائي. إنه الجنس المقدس الكامن تحت القشرة الخارجية لأعماله. وهو في الوقت ذاته مجال حيوي للشعرية المتصاعدة من اتساع التأويل، لا بل حتى التأويل المفرط ويمتد ماهود احمد واضحاً وصريحاً مع المجالات المعرفية التي بلورت النظام المعرفي/ الديني في العراق القديم. لهذا لا يمكن التعامل مع المرأة/ الأنوثة بعيداً عن خصائصها العراقية الأولى، لأنها تضيء لنا الوظائف الأمومية والجمالية، وهذا ما يريد الوصول اليه، او الاقتراب منه ويشكل هذا مسعى الفنان ماهود احمد، وبوعي عال ومتقدم جداً.  
لعب ماهود احمد دوراً مهماً في بلورة مفهوم الانوثة عبر الفن التشكيلي، وحقق نجاحاً وتفوقاً عبر الامساك بالعناصر العديدة التي بلورت خطاب الألوهة المؤنثة في الشرق وفي العراق القديم.
لذا أعتقد بأن الأنوثة الموجودة في لوحاته/ نصوصه، هي أنوثة ذات صفات واحدة وكأنها نسخة واحدة. الفتوة والرغبة/ الشبق والتدفق الشهوي، وهذا ما تؤكده الفتاة المتكررة في لوحاته، إنها فتاة واحدة وتكاد تكون منقولة حاملة معها خطاباً أنثوياً، إنه الخطاب الذي كان سيداً في مرحلة ابتداء الحضارة. هي المركز وهو الهامش؛ لذا نجده منعزلا بعدما أتم حواره مع الأنوثة التي ظلت يقظة وكأنها بعيدة تماماً عن التعطل، حتى ولو كان مؤقتاً فنجده منطرحاً، معتمداً على يديه، كاشفاً ملامحه مرحلته وهي متحررة، استعادت دورها/ موقعها في الزورق الصغير/ الرمز الدال على الأنوثة ايضا/ الرحم، إنه العطب الولادي كما قال اريك فروم، حلمها مرة جديدة، تعود فيها الى ذلك المكان الرحيم، لكن وجودها في حاضنة الزورق تعبير عن دلالة اوسع، هي دلالة امتلاء الرحم، او ابتداء الغرس فيه لقد ظلت ساهمة، تلعب بشعرها الريح، مراقبة الذكورة المستسلمة بعد اختبارها الاتصالي.
ونلاحظ بأن الانوثة في لوحاته/ نصوصه، مقترنة مع الثور باعتباره ابنا وزوجاً، وباعتباره رمزاً دالا عليها كما هو معروف لنا من خلال ملحمة جلجامش.
والعلاقة بين الأنوثة/ الأمومة والثور علاقة أزلية عرفتها حضارات الشرق، العراق/ سوريا/ فارس/ مصر/ الاغريق، لكنها علاقة متمركزة وبهيمنة في فارس والعراق والجزيرة العربية. 
لذا نلاحظ القراءة بأن العلاقة مع الثور، علاقة شعرية/ جنسية كما تظهر، وبذلك فإن ماهود احمد يستعيد بوعي متقدم تلك العتبة الدينية/ الاسطورية وهي التي اشرنا لها بعد التقشير، هي طبقة داخلية/ سرية تفعل القراءة وتنشط التأويل. لذا نجد بأن الانوثة قد اسلمت جسدها للثور الهادئ/ الامن واستندت عليه وكأنها تتوسل تاريخها الحضاري البليغ في يقظة تنقذها من حصار اليومي ودمارات الواقعي. 
إن أعمال ماهود احمد تتيح لنا القراءة عبر الافراط في التأويل، حيث البنى العميقة، وتتيح للقارئ تجاوز الشكل من حيث هو شكل واللون من حيث هو لون. وهكذا هو الخط والتكوين. تتجاوز البنى في البنية تأكيداً لانغلاقها، لتأسيس لغة الكل في لعبة المعنى. إنها مسحة تجعل من النقد بحثاً في عمق الأشياء عندما تؤسس
ظاهريتها.