كيف تكتب القصيدة؟

ثقافة 2021/08/24
...

ياسين النصير
 
سألني كيف أكتب قصيدة؟، طبيعة السؤال لا تدل على أن السائل يمتلك خبرة، بكتابة القصيدة، فالشعر شيء والقصيدة شيء آخر، قلت له لنبحث عن الشعر أولا، ثم القصيدة. نجد الشعر في الأعمال الفنية، وفي تنظيم المدينة، وفي شوارعها، وحدائقها، وطرائق السير فيها، وتنظيم اسواقها وغير ذلك، كما نجده في بنية الجسد، والشجر والقول والأشياء، فالشعر هواء تتنفسه الأشياء. أما القصيدة فتنتمي للحرفة، للصناعة، للمهارة، لتلك الطاقة التي تنظم الأشياء في وحدة كونية وببنية جمالية. وهذا شيء يأتي بعد اكشافنا للشعر، الشعرية دماء القصيدة التي تسبح فيها صورها.
هل رأيت نورسا في بحيرة؟ 
قال نعم، بجوار منطقتنا حديقة كبيرة، وفيها بحيرة جميلة، وفيها نوارس وطيور تسبح وتسافر.
قلت، إنك تكتشف الشعرية. 
قال هذه هي مشكلتي، استطيع أن أتحدث لك عن علاقة الماء بالنورس، بالبط، بالرياح، بالأشجار، بالناس، وبالطفولة بالأمهات، أعرفه ولكني لا استطيع كتابته.
قلت له إنك تكتب نثر الاشياء وليس قصيدتها، النثر يسبق القصيدة. النثر تفكير، أما القصيدة فممارسة للتفكير.
قلت لا تتم كتابة القصيدة من دون خطوات،
قال وما هي الخطوات؟
قلت: الخطوة الأولى أن لاتبدأ بموضوع من الذاكرة، ابدأه من الرؤية. الرؤية هل الخطوة التي تعين لك ما تريد.
الخطوة الثانية، أن تكون الأشياء المرئية محددة، والافضل ان تكون من طبيعة متقاربة: الطين والماء، الطير والبحيرة، العشب المائي والماء...الخ،
الخطوة الثالثة، أن تنقل الأشياء التي رأيت إلى أمكنة وأزمنة خارج مكانها وزمانها الآني. عندئذ يكون للأشياء فضاء.
المرحلة الرابعة، أن تكون أنت في كل الأشياء التي تراها بقصدية الوعي او بقصيدة خيالها المادي المستدعى من الرؤية المدركة للعالم. أنت لست الشاعر بل النورس، وانت لست فلانا بل البحيرة، وانت لست كائنا احاديا بل المخلوق الكوني، وهكذا تكون كل الأشياء هي أنت أي اصبحت أنت الموضوع، في هذه المرحلة تتشكل القصيدة وتبدأ بكتابة نفسها.
قال: اصبحت القصيدة حلما.
قلت: هو كذلك، لا تنكتب القصيدة بوعي وعقل منتظمين، ثمة اللاوعي المعرفي، وهو جزء من نشاط خيال المادة يجسد لك العالم الخارجي بطريقة تدركه حواسك كلها، لتجد في الأخير أن القصيدة تتحدث عنك، وليس عن عالم مفترض أو وهمي أو واقعي، عالم القصيدة، عالم مخلوق من عجائنك الذاتية وقد صاغت العالم المرئي لغة.
قال سأبدأ من الغد بتأمل الأشياء برؤية قصدية، أتآلف معها أول الأمر ثم أنزع عنها أثوابها الخاصة، ثم أدخلها دماغي كصور، لتجد نفسها معجونة الذاكرة مع التواريخ والذكريات والمواقف والاشياء القديمة والرؤى.
 القصيدة تكتب ياصديقي عندما تكون مريضا، لا تكتب القصيدة وأنت في تصالح وحميمية مع العالم، لا بد أن تمرض لأن العالم لايريد أن يتغير، وأنت تريد تغييره.. 
قال: هذه قصيدة كونية، فيها ما هو موضوعي وفيها ما هو ذاتي، وفيها انثروبولوجيا، وفيها مثيولوجيا، وفيها مجتمع، وفيها افكار، وفيها فلسفة، وفيها صور، وفيها واقع مغرّب، وفيها أحلامنا اليقظة.
قلت وماذا تريد من القصيدة غير ذلك؟ 
قال. ما كنت أفهم أن البداية تكون باكتشاف شعرية الأشياء، وأن القصيدة تأتي بعد ذلك بزمن غير محسوب، وبمكان غير معلوم.