الشعر وخيانة الأشباح

ثقافة 2021/08/26
...

طالب عبد العزيز 
 
 يعرّف باشلار اللحظة الشعرية بأنها «اجتماع الأضداد». ويرى أيضاً بأنها «لحظة تناغمية بين متضادين»، إذ هناك شيء من العقل في لحظة المشاعر المشبوبة بالانفعال، وهناك دائماً شيء من الانفعال المشبوب في رفضه العقلاني. في الكتابة، هناك لحظتان متكافئتان، تشدان لحظة الشعر اليهما، واحدة عفوية، قادمة من القلب، ومندفعة باتجاه الورقة، وأخرى متعقلة، نازلة ببطء من العقل، ومتجهة لذات الورقة، ايضاً، لكنها متريثة، تنتظر ما ينتج عن اجتماع وحدتي الانتاج، فالشعر لا يصحُّ عندها إلا بتناغم الضدين هذين.
  اختلفت الرؤية النقدية للشعر اليوم تماما عما تواتر وتم تصوره بشأن قول الشعر، فقد ذهبت الى غير رجعة ظاهرة الرجّاز في المعركة، والواقف على الاطلال، ومنشد قصائد المناسبات والاخوانيات، وبمعنى ما، صارت كتابة القصيدة تخضع الى معايير مختلفة، فهناك إعمال واضح للعقل، بعد أنْ ظل خارجه لسنين طويلة، وتباينت قيمة الشعر، بعد أن كان حاجة، وهكذا، تعصف المعرفة لتنتج لنا لحظة كونية، لا تخضع لأمزجة التلقي، ولا تستجيب لطلباته، وبحسب باشلار فإن الكتابة في الشعر باتت تستبدل الزمن الشجاع، الذي كان ينطلق ويحطم بالزمن الوديع الخاضع، الذي يتحسر ويبكي، لتنبثق اللحظة الخنثى، ذلك لأن السرَّ الشعري خنثوي.
في كل محاولة مني لكتابة قصيدة، بعد طول يأس، أجدني عاجزاً،عاطلاً من كل شيء، حتى لكأنني لم أكتب قصيدة يوما ماً، وأعتقدُ بأنها حال يجتمع حولها معظم الشعراء، في حين تتحرك الحياة من حولي، وتستجد احداث كثيرة، شخصية وعامة، لكنَّ الشعر عصيٌّ، بعيد المنال!! ترى، لماذا؟ برأيي، ذلك لأنَّ اللحظة الشعرية التي نتحدث عنها لم تحن بعد. كنت قد حملتُ جثمان أخي الذي مات في الحرب بيدي، من مخزن الجثث على النقالة حتى النعش، بعد أسبوع من مقتله، ورأيت بعيني تساقط الدود من جثته، في مشهد لا يُتصور، لكنني، لم أستطع كتابة حرف واحد عنه، إلّا بعد خمس سنوات من ذلك، إذ كتبتُ قصيدة (حربُ أخي) التي كانت خاتمة كتابي (تاريخ الأسى).
 لا تنتجُ عن الانفعال الطارئ أعمالٌ ذات أهمية، وليس الامر مرهوناً بحدود الشعر والفن، إنما يتجاوزه الى مفاصل في الحياة، إذ لا بدَّ من حضور لحظة أخرى أسميها (هدوء الانفعال) أو عقلنة الشعور، تتوازن فيها العاطفة مع العقل، الصدى مع الصوت، الندم مع الحنين، الخوف من الحياة مع الجنون بها، لحظة تتمكن العين فيها من معاينة التدرج اللوني، غير المحدود للاشياء، لحظة يتماهي فيها الليل مع النهار، ويكون الشاعر فيها بحاجة الى تغيير في الامكنة، والحاجة الى العيش خارج الزمن التقليدي للكتابة، والى التجرد من موجوداته، التي ألفها حتى باتت عبئًا، لحظة تجتمع الحياة فيها مع الموت، لكن، بلا غلبة لأحدٍ على أحد. وبتعبير باشلار:»فلكي نحيا لا بدَّ أنْ نخون الأشباح».