قراءةٌ في ديوان «أجنحة النهار» للشاعر العماني سعيد الصقلاوي

ثقافة 2021/08/26
...

 أ.د. سعد التميمي
 
إذا كان الخطاب الشعري متميزا بكونه مغايرا ومخالفا لأنواع الخطاب الأخرى، فإن هذه المغايرة تعكسها آليات وتقنيات يفرزها الانزياح عن القواعد المنطقية التي تحكم التراكيب لتتحول فيها المعاني المألوفة الى أخرى شعرية تعكس انفعالات الشاعر وتجذب المتلقي، وأبرز هذه الآليات الصورة الشعرية، الأداة الفعالة في التعبير عن المعاني المختلفة التأثير في المتلقي، وفي ديوان (اجنحة النهار) للشاعر سعيد الصقلاوي نجد الصورة قد اخذت حيزا واسعا في الديوان واتسمت بدينامية وحيوية عاليتين اكتسبتها من الدلالات المحمولة والعاطفة الجياشة التي عبرت عنها، ففي قصيدة (توجس) التي زخرت بالصور ذات الدينامية والحيوية تأتي من  تفجير طاقات اللغة، اذ يقول: 
متى يا أيّها المطرُ 
متى تنهل في الشريان تنهمرُ
  كشلالٍ من السبحات والبركات والأنوار ينحدرُ 
متى الصحراء في الوجدان تزدهرُ 
متى الظلماء في الأحداق
يهزم جيشها القمرُ 
فتندحرُ
متى الحب الذي قد صار يحتضرُ 
سينبت زهرة الأزمان
والأبعاد يختصرُ  
متى الأشواك في الطرقات تنتحرُ 
ويورق فوقها الريحان 
والكيذاء والزهرُ
 
 فاستثمار السياق بشكل متقن أفرز صورا شعرية معبرة ومشبعة بأحاسيس وانفعالات الشاعر فتوظيف الاستفهام من خلال الأداة (متی) التي تتكرر سبع مرات، وما حمله  من معانٍ مجازية يسهم الانزياح في رسم أبعادها، فتارة يفيد الاستبطاء، وتارة يفيد التمني، وأخرى يفيد اليأس والشكوى من الواقع بما يتضمنه من هموم وآلام، وقد عزز ذلك بالتضاد الذي هيمن على القصيدة، فالشاعر يخاطب الوطن متغزلا به في عدد من الصور التي يسهم التضاد في تشكيل أبعادها مثل (الصحراء، تزدهر) و (الظلماء، القمر) و (يحتضر، ينبت) و (الاشواك، الريحان) و (شرق، غرب) و(طول، عرض) و (الأمس، الصبح) لتمنح الصور دينامية عالية من خلال ما تخلقه من فجوات دلالية، وتجعل المعنى يشع بالعاطفة الحية، بتكاتف اكثر من آلية في تشكيله، وهذا ما يمكن أن نراه في معظم صور القصيدة (متی الظلماء في الأحداق يهزم جيشها القمر فتندحر)، فالاستفهام صور لنا تطلع الشاعر نحو الأمل والنور من خلال المعنى المجازي الذي يحيل اليه السياق، وتأتي المفارقة الدلالية في تعلق (في الأحداق) بالظلماء لتوضح قصدية الشاعر وتزيد من جماليات المعنى، وتتوالى المفارقات لتعزز من فاعلية الصور وتناميها لتشكل صورة كلية معبرة وذات دينامية وحيوية عاليتين، كما في اسناد الفعل (يهزم) الى القمر والفعل (تندحر) الى الظلماء، فضلا عن اضافة كلمة (جيش) الى الضمير (الهاء) العائد على الظلماء، واسناد الفعل (تنتحر) الى الاشواك واسناد الفعل (يورق) الى الريحان والزهر فالمفارقة الاسناد الأول، والتضاد بين الاشواك والريحان يجعلان من الصورة أكثر قوة وتأثيرا في المتلقي. 
وهذه المفارقات بما تقوم عليها من استبدالات دلالية تعكس قدرة عالية في التعامل مع اللغة من جهة، وصدق العاطفة التي عبرت عنها الصورة من ناحية أخرى، جاءت لتجسد عمق الرابطة وقوتها بين الشاعر ووطنه الذي أصبح محبوبة سلبت مشاعره وقصيدته الأولى التي أبحر في أمواج خیالاتها وتجلياتها وقصائده الأخر، فهو عاشق لا يجاريه في عشقه قيس أو عمر، إذ يقول:                    
وعطر هواك في الاضلاع 
معروق ومبتكرُ 
وملتصق ومنتشرُ
 فلا قيس.. ينافسني
 ولا وضاح، او عمرُ 
 
 تبقى الصورة التقنية أبرز التي لجأ اليها الشاعر في هذا الديوان من أجل التعبير عن المعاني والموضوعات المتعددة وكانت تعزز بالمفارقة والتضاد الذي يغدو المعنى الشعري فيه أكثر جمالية وتأثيرا، وهذا ما وجدناه في قصيدة (انتفاضة الصمت) التي يقول في مطلعها: 
صوت الوجود هاتف.. مدمدم
لن يساموا 
دماؤهم لهيب كبرياء 
جباههم منائر الإباء 
نفوسهم مواكب الفداء
 مهما الجحيم وسُّدوا 
وشُرِّدوا
وعُذِّبوا 
وصُفِّدوا
وحطمت سواعد 
وهشمت جماجم
 
فعلى الرغم من السمة الخطابية والغنائية التي هيمنت على القصيدة، إلا أن الشاعر استطاع أن يجعل القصيدة طبولا تدق لحن الصمود والتحدي فغدت الكلمات وايقاعها اشبه بطبول الحرب، ولم يستغنِ الشاعر عن التضاد إيمانا منه بأنه تقنية لا بد منها للتعبير عن حالة الصراع الذي يتمثل بالحق والباطل وبالظلم والعدل، وهذا ما جعله يختار العنوان بدقة كبيرة باعتباره عتبة للقصيدة ودليلا يرشد المتلقي الى فضائها، ليكون أكثر تعبيرا عما يحمله من مشاعر تجاه هذه القضية، فالتضاد الموجود بين الانتفاضة و(الصمت) يعكس حجم المشاعر التي يحملها، واذا كان الصمت قد تفجر في العنوان من خلال اضافة الانتفاضة اليه فان صوت الانتفاضة قد هيمن على القصيدة فتجسد في العديد من المفردات والتراكيب والصور، ومن ذلك (صوت، هاتف، مدمدم، لهيب، منائر) فضلا عن الصور التي حققتها المفارقات الدلالية وهذا ما نجده في اضافة (صوت) الى الوجود والاخبار عنه بـ (هاتف) ووصفه بالمدمدم، فضلا عن الاخبار عن دماء المقاومين باللهيب واضافة الأخير الى الكبرياءن والاخبار عن جباه المقاومين بالمنائر واضافتها الى الاباء، والاخبار عن النفوس بالمواكب واضافتها الى الفداء، فهذه الصور ذات طاقة دلالية عالية، وفضلا عن شحنات عاطفية صادقة وكبيرة يأتي التوازن النحوي الذي يخلقه تكرار الجمل الفعلية (وسدوا) (شردوا) و (عذبوا) و (صفدوا) ليخلق ضربات متتالية وقوية تعكس حجم الألم من جهة، والرغبة في الصمود والتصدي من جهة أخرى، ويهيمن هذا التوازي على القصيدة كاملة لتغدو اشبه بحجارة المقاومين وبحجم الألم الكامل الصدور.