ديغا.. القصة الحقيقيَّة للراقصة الصغيرة

ثقافة 2021/08/28
...

 كامل عويد العامري
 
انطلقت كامي لورنس في روايتها «الراقصة الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعا»، متتبعة أثر ماري فان جوته، عارضة أزياء ديغا. نتج عن بحثها عمل رفيع ورائع، عند مفترق الطرق بين التوثيق والرواية الذاتية.
تستحضر الكاتبة في هذه الرواية، الاستقبال السيئ للعمل من خلال معرضه في الصالون الانطباعي عام 1881. في باريس وتسبب ذلك في فضيحة، وقد وجه النقاد آنذاك لديغا نقدا لاذعا، لأنه جسد تمثالا لفتاة بطريقة وحشية، حتى أن البعض قارنها بقرد أو بهندي من هنود الأزتيك. واقعية النحت كانت صادمة
لمعاصريه.
كان عرض ديغا لتمثال {الراقصة الصغيرة ذات الاربعة عشر ربيعا}، هو العمل النحتي الوحيد خلال حياته، وكان تمثالا من الشمع بالحجم الطبيعي والحقيقة هي أنه بمحاولته الأولى هذه، أحدث ثورة في تقاليد النحت وهو الذي منذ فترة طويلة هز تقاليد الرسم. كان التمثال لفتاة بشعر حقيقي مربوط بشريط حقيقي تقريبًا وترتدي تنورة قماش منتفخة شديدة القصر، ونعال حقيقي- مزيج عصري جذري من المواد. كانت صغيرة - طولها متر واحد! لكنها كانت تقف وكأنها تسخر من الجمهور، وكأنها عارية في بدلة العرض الخاصة بها، واقفة على قاعدة مغطاة بقماش من الساتان، بعينين نصف مغمضتين، تبدو غائبة، شاردة الفكر، غير مبالية، أو ساخرة- لم يكن أحد متأكد.  تمثال وحسب.
الراقصة الصغيرة البالغة من العمر أربعة عشر ربيعا «هي بحث عن التمثال الشهير لإدغار ديغا {1834 - 1917} يمثل راقصة شابة في فرقة أوبرا باريس، نسخته البرونزية محفوظة في متحف أورسيه {الأصل كان مصنوعا من الشمع}. وكامي لورنس، التي كانت مهتمة بالإبداع الفني والأدبي، اهتمت بالسياق التاريخي الذي ولد فيه هذا النحت، وخاصة بالنسبة للفتاة الصغيرة ماري فان جوته. بوصفها موديلا للفنان.
ولدت ماري عام 1865 لأسرة بلجيكية متواضعة للغاية، وتم طردها من الأوبرا بعد فترة وجيزة من عرض ديغا وفقد أثرها في الأرشيف. بعيدًا عن الصورة الفاتنة التي نربطها اليوم بـ {راقصات الأوبرا الصغيرات}، تكشف لورنس عن فقر وفساد هذه البيئة التي ترى أن أمهات الراقصات الصغيرات يدفعن بناتهن للعمل كغانيات في نهاية التدريبات.
أيقظت كلمات الكاتبة الفرنسية كامي لورنس قصتين.. قصة عن ديغا، الرسام البرجوازي، العازب، المتميز بالنقاء، المطلبي، المهووس بالإيماءة الدقيقة، الذي جعل من نماذجه تتأرجح مرارًا وتكرارًا حتى تلتقط حركة الحياة، فلجأ إلى النحت ليكون أقرب إلى الواقع عندما بدأ يفقد بصره.
وقصة ماري فان جوته، الفقيرة الصغيرة، التي تسمت باسم اختها المتوفاة، التي عملت في الأوبرا لبضعة بنسات في اليوم كـ {صورة ظلية متحركة} من الدرجة الثانية – أي راقصات الباليه اللواتي يكوّن في العادة فرقة الباليه في الجزء الخلفي من المسرح - كانت تحاول أن تزيد من أجورها اليومية، لأنها بحاجة للمال، فعرضت نفسها للسيد ديغا كموديل، لدرجة أنها طردت لاحقًا من فرقة باليه الصغيرات بسبب التغيب عن العمل. ليس من المؤكد أنها رأت تمثالها الصغير ذات يوم.
{ما يجعل الفتيات الصغيرات يحلمن في كثير من الأحيان لم يكن حلما بالنسبة لها}. يتعلم المرء ألف شيء من خلال القصة الاستقصائية الموثقة جيدًا، والتي ستكون جزءًا من أطروحتها في الدكتوراه.
في الأوبرا كانت تعيش بروليتاريا من الفتيات الصغيرات لم تكن أسرهن آخر من أراد الاستفادة، وعالم من الهواة المتميزين الذين تجذبهم أجساد الراقصات بقدر ما يجذبهم سر الرقص. كانت الأوقات عنيفة، وقد يتأثر المرء بالتعاطف العميق الذي تشعر به الراوية تجاه راقصتها الصغيرة، من خلال الحوار المقلق في صمت، حول العلاقة بين الفنان وموضوعه، حول المشهور والمجهول، حول العمل الفني الذي يفلت من خالقه، وعن سخرية الأجيال
المقبلة. 
هل عرفت ماري أنها كانت تعد متوحشة ومخيفة؟، هل أراد ديغا من تمثاله الصغير أن يصدم المجتمع بإثارة التفكير؟، اختفت الراقصة بعد سنوات قليلة من العمل لدى الرسام من دون أن تترك أي أثر.
تروي كامي لورنس أيضًا تحقيقها في الأرشيفات المعاصرة، بين الوثائق التي نبشتها وملفات الأحوال المدنية المنشورة على الإنترنت.. وهذا ما يجعل من هذه الرواية المزدوجة ذات قيمة، هذا التداول للسرد بين الحياة والكتابة، هذا الربط بين الأمس واليوم، والذي يقود الكاتبة المذهولة في نهاية المطاف إلى إيجاد أصداء. أحداث غير متوقعة في بحثها عن ماري في حياتها الخاصة. وكما تلخص لورنس:
{يجتاز ديغا {...}، بهذا التمثال، حدًا رمزيًا مزدوجًا: حد اللياقة وحد قواعد الفن لأكاديمية. إنه يحقق ثورة أخلاقية وجمالية في آن واحد، ويكسر المحرمات. فهو، يختار مادة مثيرة تسيء إلى الأخلاق الحميدة من ناحية، ويقوض أسس التماثيل ذاتها من 
ناحية أخرى}.
 
**  ملاحظة: صدرت الرواية عام 2017 عن دار غاليمار، وستترجم بعد استحصال حقوق الترجمة والنشر. وسبق لكاتب المقال، أن ترجم للكاتبة كامي لورنس وبالتعاون معها، ثلاث روايات هي: {بين الاحضان}، و {أنا من تظنونها}، و{ فتاة} والأخيرتان بدعم من المركز الوطني للكتاب – وزارة الثقافة الفرنسية. الروايات الثلاث صدرت عن دار نينوى للدراسات والنشر.