تجليات التناص الديني في (ممتلكات لا تخصني)

ثقافة 2021/08/30
...

  أحمد الشطري
 
لا شك أن التناص سواء بمفهومه التاريخي أم بمفهومه الحديث وفقا لتنظيرات جوليا كرستيفيا أو باختين، وبكل تجلياته القصدية وغير القصدية، يشكل قيمة جمالية مضافة لجماليات النص، وهو وإن اختُلِف في وضع تعريف جامع مانع له، إلّا أنه لا يعدو أن يكون نوعا من (الامتصاص) أو (الادماج) أو (التحويل) كما أشار الى ذلك محمد مفتاح في كتابه تحليل الخطاب الشعري.
وكون النص يمثل كتلة فسيفسائية أو «جيولوجيا كتابات» وفقا لبارت، أو هو مجموعة نصوص مضمرة ينبغي على القارئ «المشي خارج النص- وفقا لإيكو- لاستنباط شفراته وترميزاته»، فإن قراءتنا لنصوص مجموعة (ممتلكات لا تخصني) لآمنة محمود ستكون محددة في تلك التناصات القصدية التي استخدمتها الشاعرة، والمحصورة أيضا بالمرجعية الدينية للنصوص المتناص معها. 
والملاحظ أن الموروث الديني كان وما زال مرجعية مهمة وثرية للعديد من التناصات في النصوص الادبية العربية؛ ومثلما شكل الموروث التاريخي القديم بأساطيره ومدوناته ظاهرة في النصوص الأدبية والشعرية على الأخص لأدباء القرن العشرين، والحداثيين منهم بشكل خاص، إلّا أن الموروث الديني كما أرى بات يشكل أيضا ظاهرة ملفتة في نصوص العقود الثلاث الأخيرة جديرة بالدراسة والتقصي.   
ونصوص الشاعرة آمنة محمود في مجموعتها التي ذكرناها، يمكن أن تعد أحد النماذج التي تتجلى فيها ملامح هذه الظاهرة، وبدءاً من أول نص في المجموعة، بل أول سطر فيه، نجد الشاعرة قد وظفت تناصا مع الحديث النبوي «الجنة تحت اقدام الأمهات» مستخدمة إياه بصيغة طرف محاوَر (بفتح الواو) من خلال النفي (لا جنة تحت أقدامهن) كتعبير احتجاجي على ما تخلفه الحروب والصراعات من خسائر ومآس، تترسخ آثارها في نفوس الأمهات الثكالى بشكل أكثر عمقا وإيذاء.
وفي ذات النص نجد أيضا تناصا مع الآية القرآنية (قل هو الله أحد) بقولها (قل هو العراق: «ألم»)، إذ قامت الشاعرة بتحوير جملة (الله أحد) الى جملة (العراق ألم) كمقابلة استعارية لمحلية جملة مقول القول مع الاحتفاظ بالعمق الدلالي لجملة (الله أحد) بما تحمله من دلالة ثبات واحدية الله مقابلة بثبات واحدية ألم العراق. 
وفي نص آخر بعنوان (أسرى وابتهل) نجد أن هناك تناصين: الأول مع سورة الإسراء من خلال استخدامها كلمة (أسرى) بما تحمله من دلالات وما تتعالق فيه مع حدثية الإسراء، والثاني مع سورة يوسف من خلال هذا المقطع: «رأى نجوما ساجداتٍ لقمرٍ وحيد/ وما أكترث/ قدَّ قميص الصبر من مرارة اللوم» ص11. 
ونلحظ في هذا المقطع أن الشاعرة استخدمت تناصا تحويريا لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وكذلك قوله تعالى: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25] وهذا التوظيف لهاتين الآيتين أضفى على النص قيمة رمزية وجمالية مضافة؛ لأن ذلك التوظيف كما يظهر لم يكن فائضا أو متكلفا، وإنما جاء متفاعلا مع سياق الحدث السردي في النص.
وفي نص (ممتلكات لا تخصني) ص17، نجد العديد من التناصات سنشير لبعض منها في مابين القوسين: (واسودت عيناي بكاء فأبصرتك - {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، ضربت بعصاك حدادي فأضاء الظلام../ ضربت بعصاك رمادي.. فانتفضت قصائد- { فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]، أيُّ قميص يشفي هذا القلب- {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93]، وحسبت اللجة لجة.. فكشفت عن ساق وحيدة-{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44]، لا هدهد يلقي بكتاب ينذرني- {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28]).
لقد استطاع هذا النص أن يمتصَّ هذه التناصات المتعددة، ويوظفها بفنية متقنة في تعزيز الانفتاح الرمزي على فضاءات متعددة، والملاحظ أن الشاعرة تستخدم تقنية التحوير أو المحاورة للنص المتعالق معه، وليس التناص الاقتباسي، وهو ما يجعل منها تناصات تفاعلية متحركة، تمنح الصورة الشعرية قوة حضور في ذهنية المتلقي، وتضفي سعة على غائية الدلالة الرمزية مما يسهم في تعزيز انفتاحية التأويل وتعدد أبعاده.  
في نص (فقيهة دمعك) ص24، نلحظ أن الشاعرة وبدءا من المتعالية النصية قد وظفت التناص الديني من خلال كلمة (فقيهة)، وهي دلالة على الإحاطة والمعرفة الاستنباطية لمضمرات (دمع) المُخًاطَب، والذي يتبين لنا من خلال النص أنه (الوطن)، رغم أن الشاعرة حاولت تمويه وإخفاء صورته.
وفي هذا النص أيضا استخدمت عدة تناصات دينية كما في هذا المقتبس: (-:كوني./ فيمتلأ الكأس خيبة)، وكما هو واضح يتضمن تعالقا مع قوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
وفي قولها: (موعدنا الصدفة/ وأن يحشر الناس في ساحة التحرير) تعالق مع قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]. والتناص هنا ليس على المستوى النصي فقط، وإنما على المستوى الحدثي والنتيجة أيضا، فطرفا الصراع في الآية هو فرعون (الحاكم المستبد) وموسى المواطن الذي ينشد الهداية والعدل. في حين طرفا الصراع في نص الشاعرة هما (الحاكم الفاسد) 
والشعب الذي ينشد الإصلاح 
والعدل. وهو ما جعل من هذا التناص معزِّزا ليس جماليا فقط وإنما دلاليا وتحفيزيا.
إن تنويهنا لبعض التناصات الدينية في مجموعة الشاعرة آمنة محمود، هي بمثابة إشارة ضمنية لفعل فني قصدي، بات يشكل ظاهرة ملفتة في الساحة الإبداعية العراقية والعربية من المهم أن يحظى بدراسات أكثر استقصاء وتحليلا.