نحو نقد ثقافي رصين

ثقافة 2021/08/30
...

د. حسين القاصد
 
 يرتبط الشعر العربي بشكل عام، والشعر الجاهلي على وجه الخصوص بدوره الاجتماعي، وهذا الدور منحه أفقاً ثقافیا، لأنه -أي الشعر- كان ومازال احتياجاً بحكم ارتباطه بمنفعيته ووظيفته، ولم يكن الشأن الفني إلا ثوباً له.  لأن الشعر العربي نشأ لدفع شر، وحفظ أثر، وليس له وهو بهذه النشأة وهذه البيئة أن يتخلى عن الفخر لأنه (لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبیات، یقولها الرجل في حاجته (طبقات فحول الشعراء).
للغذّامي آراء شخصية أطرها بإطار التساؤلات في مقدمة كتابه، ومنحها شرعية التعميم، والشمولية وهي في حقيقة الأمر نتائج أوهم بها نفسه قبل القارئ: «هل جنى الشعر العربي على الشخصية العربية؟، هل هناك أنساق ثقافية تسرّبت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديموقراطي، وكانت فكرة «الفحل» وفكرة «النسق الشعري» وراء ترسيخها؟، ومن ثم كانت الثقافة، بما أن أهم ما فیها هو الشعر، وراء شعرنة الذات وشعرنة القیم؟، لقد آن الأوان لنبحث في العيوب النسقیة للشخصية العربية المتشعرنة، والتي یحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة»، (النقد الثقافي، عبد الله الغذامي)؛ لقد أسقط عبد الله الغذامي كل ما قرأه من كتب عالم الاجتماع العراقي د.علي الوردي، على الشعر ليجعله سببا في السلوك الشاذ وسببا في انتشار وتفشي العيوب الاجتماعية، متناسيا أن الدكتور الوردي كان بصدد أسطورة الأدب الرفيع لا بصدد تحميل الشعر مسؤولية السلوك الاجتماعي الشاذ؛ يقول الغذامي: «فشخصية الشحاذ والكذاب والمنافق والطماع، من جهة، وشخصية الفرد المتوحد فحل الفحول ذي الأنا المتضخمة النافیة للآخر، من جهة ثانية، هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعري، ومنه تسرّبت إلى الخطابات الأخرى، ومن ثم صارت أنموذجاً سلوكیاً ثقافیاً یعاد إنتاجه، بما أنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي»، وهو بذلك جنى على المتلقي، بل على المجتمع قبل أن يجني على الشعر ويتهمه بالجناية!، لأن الشعر خطاب فردي غير ملزم للجميع، ولم ينطق بذلك د.علي الوردي، الذي استلهم منه الغذامي فكرة النقد الثقافي.
كان الدكتور الوردي بصدد أسطورة الأدب الرفيع الذي ارتبط تسويقه بالسلطة، وكان بصدد سلوك الشاعر لا سلوك المجتمع، ولم يعترض على فنية وجمالية الشعر، بل اعترض على غرضيته السيئة عند بعض الشعراء.
بعد انتشار ظنون الغذامي التي سوّقها على أنها أحكام مفروغ منها، حدثت هبّة غذامية السلوك في بعض أنحاء العالم العربي، وفي العراق بشكل فاضح؛ حتى صدرت عشرات الكتب والدراسات التي تتبنى أوهام الغذامي الذي مارس نسق الإيهام النقدي ليتبعه التابعون بوعي أعمى، إذا جاز لنا الوصف؛ لذلك صرنا نراه مرجعاً وتكاد لا تخلو جامعة عراقية من محاولة في النقد الثقافي بثوب غذاميِّ فضفاض.