التراث في الدرس الجامعيّ

ثقافة 2021/08/30
...

 محمد صابر عبيد
 
يعدّ التراث مرجعاً أساسياً ومركزياً لا غنى عنه لأيّ ثقافة تنشد التطوّر والتقدّم والرقيّ والسير في ركب الحضارة العالميّة -وقد ابتعدت عنّا كثيراً للأسف-، فمن لا تراث له لا حاضر له ولا مستقبل أيضاً، لكنّ المشكلة في الدعوة إلى قراءة التراث ومراجعته وتقويمه وإعادة إنتاجه على نحو ما تصطدم بالكثير من المعيقات، لعلّ أوّلها وأبرزها يتمثّل في الرؤية التي يمكن أن تنهض بها هذه العملية، والمنهج الذي يضيء دربها ويكرّس جدواها.
 إنّ الجامعات في المقام الأوّل هي المكان المثاليّ الأهم للاشتغال على هذه العملية بأساليب أكاديميّة راقية ومنضبطة، بوصفها فضاءً معرفياً يحتفي بالرؤية والمنهج في ظلّ ضوابط التقاليد الأكاديمية التي تحرّك خيوط فعل المراجعة، إذ تجري هذه العمليّة على نحو علميّ قائم على أسس وقواعد وقوانين صارمة لا يمكن التساهل فيها، لذا فإنّ الدرس الجامعيّ المبتغى على وفق هذا المنظور يجب أن يكون في أعلى درجات علميته وأكاديميته.
   التراث بهذا المفهوم المفتوح على أفق واسع وشامل يحتاج أكاديمياً إلى ضبط وتحديد وتصنيف وفرز وتبويب علميّ، على صعيد المفاهيم والمصطلحات والإجراءات والأساليب والرؤيات وكلّ ما يتعلّق بطبقات هذه الفعاليّة من جهود صحيحة، ويحتاج في الوقت نفسه إلى ملاكات جامعية مؤهلة وكفوءة ومتخصصة بوسعها القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، ويحتاج إلى منظور أكاديميّ جديد حرّ وأصيل خالٍ من التقديس والتوثين لكلّ ما هو تراثيّ، ومتحرّر من عقدة الضآلة في النظر إلى الآخر وهو يهيمن على ثقافة العصر ويسيّرها بإرادته على المستويات كافة.
   مازال الدرس الجامعيّ الذي يقارب التراث في معظم جامعاتنا العربية يكتفي بمديحه والاحتفاء به وتوكيد أهميته ووجوب الإيمان المطلق به، وكأنه كتاب مقدّس لا يمكن المساس به ونقده وفرز المضيء من المظلم فيه، فضلاً على الإصرار الدكتاتوريّ على منهجية تقليدية (ذات طبيعة وصفية) أضحت اليوم قديمة جداً في قراءة التراث وتقويمه ومعالجته، والاكتفاء بسطوحه وتكفير مغامرة الغوص في متاهات المسكوت عنه فيه لالتقاط الجواهر واللآلئ الكامنة فيه، فثمة الكثير الكثير فيه مما يحتاج إلى مراجعة علمية إجرائية ونقدية صريحة تنطوي على روح المغامرة والجرأة وتسخير المنهجيات الحديثة في الكشف عن الطبقات الجوانية فيه، وتصحيح الكثير من الأوهام والخرافات التي لا تتفق مع الروح العلمية الأكاديمية وقد هيمنت على درس التراث الجامعيّ عقوداً طويلة من الزمن.
   لا بدّ من استحداث مؤسسات ومراكز علمية وبحثية متخصصة، يُنتدب لها جامعيون متخصصون أكفاء ولهم تجارب وخبرات ناجحة في هذا العمل، تتوفّر لهم إمكانات بحثية متطورة ومتقدمة على وفق أحدث تقانات المعرفة من آليّات ووسائل اتصال وبحث وتحليل بأحدث الطرق العلمية المتبّعة عالمياً، ولا شكّ في أنّ إشاعة ثقافة جديدة تنويريّة وطليعيّة في النظر إلى التراث لا تجعل من كلّ ما هو تراثيّ معصوماً من الأخطاء، وفي منأى عن النقد، ومنجى من المراجعة والتقويم، إنّما تسهم في تكريس رؤية أكاديمية موضوعية بروح علمية أصيلة تعامل التراث معاملة إجرائية معرفية ذات طبيعة ديمقراطيّة وموضوعيّة من دون شروط مسبقة، أو إكراهات ضاغطة، أو تصوّرات ثابتة لا يمكن خدشها أو تسليط ضوء كاشف عليها، وتمنح لهذه المؤسسات والمراكز -ومن يعمل فيها من المتخصصين- حرية كافية لا تقيّد بأيّ ضوابط مهما كان نوعها، من أجل تنقية التراث مما علق به من شوائب، وتصحيح الكثير من مقولاته الخاطئة والزائفة، وتعميق مناطق الضوء والنور والإبداع الخلّاقة فيه.
    الدرس الجامعيّ هو الدرس الأكثر قدرة على إنجاز هذه المراجعة المنشودة، لما يختزنه من مقوّمات واستعدادات وفرص علمية نادرة، لا يمكن أن تتحقّق في أيّ درس آخر مهما بلغت علميته وعلمية أفراده العاملين فيه خارج أسوار الجامعة، لأنّ الجامعة هي المركز المؤهّل في الأحوال كلّها لإنتاج معرفة جديدة من التراث، بما تمتلكه من خبرة وتاريخ معرفيّ وعلميّ وملاكات متخصصة وقاعدة أكاديمية عريضة تساعد في إنجاز البحوث على أعلى المستويات، وعليه يتوجّب على الدرس الجامعيّ أن يعي خطورة دوره ووجوده وأهميته، كي ينطلق نحو فضاء التراث لمعالجته 
بروح علمية وثّابه ومتحررة وجريئة وقائدة، بمنهج جديد ورؤية جديدة تأخذ بنظر الاعتبار روح العصر وثقافته وتحضره ونجاحاته العلمية في الميادين كافة.
وإذا كان الجهد العلميّ في (تحقيق التراث) هو الجهد العلميّ الأظهر في الدرس الجامعيّ في بعض الجامعات العراقية والعربيّة عموماً، فإنّ ما يرافق هذا التحقيق من مقدمات بسيطة لا يمكن أن تسهم إسهاماً حقيقياً في الكشف عن قيمته وفرز الأصيل من العاديّ فيه، وبإطلالة سريعة على ما أنتجته الدراسات الأكاديمية للتراث العربيّ في الجامعات العربية والعراقية سنكتشف سريعاً أنها لا ترقى إلى ما يحتاجه هذا التراث من درس جامعيّ فاحص وراصد ومكتشف، على النحو الذي نؤكّد فيه وبقوّة ومسؤولية أننا بحاجة إلى درس جامعيّ جديد 
للتراث في جامعاتنا، يأخذ بنظر الاعتبار ما حصل من تطوّر وتقدّم في مناهج الدراسة الأكاديمية والنقدية في 
جامعات العالم الرصينة الكبرى، وأن يسخّر جزء مهم من اشتغال الدراسات العليا لإعادة قراءة التراث العربيّ قراءة جديدة.