د.عبد الخالق حسن
حين يحضر أمامنا مفهوم الثقافة، فإنَّ البعض ينصرف ذهنه فقط إلى الشكل النخبوي لها، والذي يكون على ذوق ومقاسات المؤسسة الرسمية، بكل تصنيفاتها (سواء النقدية أو الفكرية). لكنَّ العالم الفكري والإبداعي والثقافي بحدوده المفتوحة اليوم، بعد انقلاب المفاهيم وتحولها وفقاً لمعطيات ما بعد الحداثة، صار يضع كل المنتجات الثقافية النخبوية أو الفرعية في سوبر ماركت الانتاج الثقافي- إن جاز التعبير- ولك أن تختار وتتذوق بحسب ما تراه أنت قريباً من منطقة فهمك واهتمامك. بمعنى أنَّه ليس هناك شيء مستبعد اليوم من منتجات الشعوب الحضارية، مهما صغرت أو بدت مهملة من الذوق النخبوي. فالثقافة الرسمية النخبوية، مع اتساعها وتجريدها، تظل مدينةً للثقافات الفرعية، التي تغذيها مثلما تغذي الروافد النهر ليكمل مسيرته. وهذا ما راهن عليه مثقفون مهمون عالمياً في مجمل نشاطهم الثقافي، حين جعلوا من الثقافات الفرعية السلَّم الذي ارتقوا به إلى العالمية. لدينا هنا نموذج الروائي الكولومبي الشهير ماركيز، الذي اعتمد كثيراً في رواياته على المهمل والشعبي، بل الغارق في شعبيته، حين كتب مثلاً أشهر رواياته (مئة عام من العزلة). ولدينا أيضاً نموذج الروائي العربي المهم نجيب محفوظ، والذي انطلق من الحارة المصرية، بكل تفاصيلها الشعبية نحو سماء نوبل.
لهذا يجب أن ننشغل هنا في العراق بإعادة الاعتبار لتقاليدنا الثقافية الفرعية، الآتية من جميع البيئات، لنجعلها المغذي الحيوي لثقافتنا وأدبنا الذي ننتجه. والأمثلة كثيرةٌ هنا وهي أكثر من أن تحصى. وما دمنا في أيام عاشوراء، فإننا يمكن أن نستثمر الكثير من ثقافة العزاء الحسيني ومواكبه، لنمنح الثقافة الرسمية حيويةً أكثر. لدينا أيضاً تراث الطرق الصوفية، التي تصاحبها طقوس وتقاليد خاصة فيها العديد من الدهشة. وغيرهما طبعا هناك الكثير من الأشكال الثقافية الفرعية.
الفائدة هنا طبعا ستكون مضاعفة. فهي في جانب ستجعل الانتشار الثقافي أوسع وأكثر إغراء، للبحث فيه والاطلاع عليه، سواء في الداخل أو الخارج. ومن جانب آخر تمنح هذه الثقافات نهر الثقافة الوطني حياةً وجرياناً بلا انقطاع، حتى وإن كانت هذه الثقافات الفرعية ملأى بالأساطير، لأنَّ الأسطورة مثلما قال السياب يوماً تمثل طفولة الشعوب. وأنَّ الثقافة تحتاج إلى العودة لهذه الأساطير كلما شعرت بالنضب والجفاف.