يسار النظرية النسوية الفعّال

ثقافة 2021/08/31
...

  د. نصير جابر
 
على الرغم من أن النظرية النسوية منذ تمظهرها الأوّل وتجليها الواضح في تأريخ الفكر الإنساني الحديث وخلال مراحل تطورها كلّها حاولت أن تظل بعيدة عن قيد الأدلجة القوي بوصفها نظرية انسانية جامعة للاتجاهات والتيارات وهاضمة للايديولوجيات الفكرية كافّة، شرط أن تكون هذه -أي الاتجاهات- تصبّ في مجرى واحد هو السعي الحثيث والدائم للبحث عن المساواة بين الجنسين والوقوف إلى جانب المرأة في قضاياها، وفهم ما حول ذلك كلّه من مؤشرات ومعطيات تتصل وتتشعب جدا حتى لتكاد تحتوي على جزء كبير من المعرفة ومسالكها في الاقتصاد والسياسة وعلم النفس والفلسفة وعلوم اللغة والقانون وغيرها.
أقول على الرغم من ذلك كلّه إلّا أن هذه النظرية - بحسب ما أظن- كلما اقتربت من الفكر اليساري -الماركسي خاصة- كانت جولاتها في الانتاج المعرفي أغزر وأكثر جدوى وعلى الأصعدة جميعها، والأمر يتعلق طبعا بجزئيات هذا الفكر ووجهة نظره التي تبدأ دائما وأبدا من (المساواة) الاجتماعية بوصفها الهدف الأول والرئيس.
ولعل أهم جانب يمكن للباحث أن يلاحظه في هذا الاتجاه هو (نوع) هذه الشخصيات النسوية التي انتجها وقدمتها بوصفها واجهة ناصعة لهذا الفكر، فضلا عن عمقها العلمي وتأثيرها الكبير في الحياة، ولعل اسم روزا لكسمبورغ (1871-1919) من بين أهم هذه الاسماء فهذه المنظّرة والفيلسوفة والاقتصادية الماركسية تركت من الآثار المادية (مؤلفات) والآثار المعنوية التي تمثلت في سيرتها ومواقفها الصلبة والمبدئية خلال حياتها القصيرة المثمرة، ما يمكن اعتباره سيرة نموذجية لنسوية تعي عصرها ومشاكله بصورة فائقة ودقيقة.
وبُعيد مقتل روزا بأربع سنوات ولدت الناشطة العراقية والرائدة النسوية نزيهة الدليمي (1923-2007) وهي أول وزيرة في تأريخ البلاد العربية كلّها إذ شغلت منصب وزيرة البلديات في حكومة عبد الكريم قاسم وكان لها الدور الكبير في صياغة قانون الأحوال الشخصية العراقي في العام 1959 الذي اعتبر القانون الأكثر تقدما من حيث الحقوق التي منحت للمرأة، ومن الجدير بالذكر أن نزيهة كانت هي المرأة الثانية التي تصل إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقية بعد أمينة الرحال.
وفي مصر عام 1938 ولدت شاهندة مقلد المناضلة اليسارية التي قضت جلّ حياتها في الدفاع عن حقوق المرأة ومحاربة أي محاولة لاستغلالها اقتصاديا وزجت بنفسها في آتون العمل السياسي، وكان صوتها عاليا في ظل العهود التي عاصرتها على الرغم من السجون والمعتقلات التي تعرضت لها حتى وفاتها عام 2016.
وبالعودة إلى ما افترضناه من أن الفكر اليساري هو الأكثر فاعلية في سيرة النظرية النسوية يمكن أن نتأمل مصائر هؤلاء النسويات في محيطهن القامع فروزا لكسمبورغ أعدمت وحكم على نزيهة الدليمي بالإعدام ثم المؤبد وعاشت حياتها منفية، وعانت شاهندة مقلد من السجون والمعتقلات طويلا كل هذا لأنهنّ أكثر سطوعا من أن يتحمل مجتمع معتم وجودهنّ الفاعل والمؤثر.