تغييب الأثر.. قراءة في شعر خالد علي مصطفى

ثقافة 2021/09/01
...

 جاسم الخالدي
 
  يبدو أنَّ الكتابة عن شاعرٍ مثل خالد علي مصطفى، تحتاج إلى معرفة وعمق يوازيان المعرفة التي يزخر بها نصه الشعري؛ فهو شاعرٌ مثقفٌ، خبر الشعر العربي: قديمه وحديثه، فحين يحدّثك عن امرئ القيس، وطرفة بن العبد، ولبيد، فكأنّه يتحدث عن شاعرٍ معاصر له، فضلًا عن معرفته بالشعر الغربي، وتحديدًا الأوربي منه، كما أنّه كان يعي أن الموهبة الشعريّة غير قادرة وحدها على صناعة شاعر مهم، ما لم تدعمها ثقافة نقدية رصينة، لذلك قرأ النقد العربي: قديما وحديثا؛ وتعرف على المناهج النقدية الحديثة، بما أسعفته الترجمات، وما يعرف من لغة أجنبية، لذلك كانت ثقافته النقدية توازي ثقافته الشعريّة. 
ومن هنا، يمكن عدّه من الشعراء النقاد، الذين أغنوا قصائدهم بفيوضات نقدية وشعرية حديثتين، على الرغم من اعترافاته الكثيرة، في محاضراته أو جلساته بأنَّه ليس ناقدًا، وما يعلنه من آراء فهي آراء شخصيّة، لا ترتقي إلى مصاف النقد، وفي هذا القول تواضع جم، وتلك هي ميزة الكبار، عندما يتنازلون عمّا لديهم.                                
  لقد كان د.خالد علي مصطفى يعترف أنّ  آراءه النقدية  لا تستقرُّ على حال، فقد تتغير تبعًا لتغيّر قناعاته النقديّة، وتطوره الشعري والنقدي؛ ولذلك فأيّة مواجهة لدواوينه الشعريّة، لا بد أن تستحضر الناقد، ما لديه من معرفة شعرية ونقديّة وتاريخية وعقلية، مثلما يحتاج إلى قدرٍ من المعرفة في الشعر وضروبهِ، وسننه، ولغته، وإيقاعه، ومضامينه، وما طرأ عليه من تحولاتٍ خطيرةٍ، اخترقت الشعريّة العربيّة مع دخول حركة الحداثة الثانيّة التي تزعمها جيل الستينيات الذي انفتحت شهيته على التجريب، والبحث عن المناطق البكر التي لم يرتدها الشعراء من قبلُ.                                                                       
   إن قصيدة مصطفى قصيدة عميقة، لا تمنح نفسها للقارئ، في الوهلة الأولى؛ بل تحتاجُ إلى كدِّ الذهنِ، لتكشف مهارته في تغييب الأثر، أو المرجعية التي استند إليها في بناء قصيدته.                                                                                                   
   تنوعت تجارب الشاعر، وتعددت، وتوزعت مجموعاته الشعرية على طول حياته، وكانت مجموعته الشعريّة (البصرة- حيفا) من بين مجموعاته التي أخذت بعناية الشعراء والنقاد، في بداية العقد السبعيني من القرن الماضي.                                                     
لعلَّ قصيدته الأولى منها، (الحب والكوخ)، تجسِّد تلك المهارة في تغييب أثر النص الأول؛ إذ يمتزج النصّان، ليصبحا نصًّا واحدًا، يقول:                                                  
وقف الحبُّ دونَ زادٍ على    
عتبةِ كوخي مسائلًا: « أين أرسو»
فأجابَ الترابُ: « هاك ثيابي،
إنها في مباهج الموتِ عرسُ
يحيلك النصُّ إيقاعيًّا إلى سينيّة البحتري الشهيرة المكتوبة على «بحر الخفيف»، وقد لا يكون المضمون قريبًا منها؛ لكن الشاعر افترق عن النصِّ الأوّل؛ إذ استعان بأساليب الحداثة في بناء قصيدته، في الانحراف عن مضمون النص الأول، باتجاه مضمون حداثي جديد.                                                                                          
كما أنّه وظف تقنية معاصرة، وهي الحوار في بناء قصيدته، ليبعد الأثر، وكأنَّ الشاعرَ ينظر بعينٍ لما استجدَّ بالشعر من تحولات خطيرة، مسّت أعظم ركن فيه وهو العمود الشعري، مثلما أنّه كان ينظر بأخرى إلى الماضي، بما يحمل من أثرٍ شعري عظيم؛ لينتج نصًا متوازنًا يقف على أرضية صلدة: التراث والتجديد.                                       
يقول البحتري:
صنتُ نفسي عمّا يدنسُ نفسي      وترفعتُ عن جدا كلِّ جبسِ
وتماسكتُ حين زعزعني الدهـ     ر التماسًا منه لتعسي ونكسي
فضلًا عن أن البحر الخفيف من البحور القلائل التي يكثر فيها (التدوير) وهي التقنية التي انشغل بها الستينيون، كما قال الشاعر نفسه، في حديثٍ له عن حسب الشيخ جعفر. وربّما أشار إلى الأثر السحري لقصيدة (أدونيس) على الشعراء الستينيين، تلك التي حملها أدونيس معه إلى بغداد؛ في مشاركته في مؤتمر الشعراء العرب الذي عقد عام 1969م.            
ويبدو أن قصديّة خالد كانت واضحة في كتابة قصيدة (الحب والكوخ)، على بحر الخفيف، فقد كتب عن تلك الواقعة، قائلًا: «أحيط الشاعر وقصيدته، بعناية خاصة من لدن شعراء جيلي (الستينيات)...» ص15.     
ونجد هذا الشكل التدويري، في قصيدة أخرى، يوم كانت تقنية التدوير هي الرائجة في المشهد الشعري العربي، والعراقي منه على وجه التحديد، إذ جعلها حسب الشيخ جعفر أمرًا متداولًا بين الشعراء العراقيين، فضلًا عن أنّها جاءت على بحر المتقارب، وهو من البحور القليلة التي يكثر فيها التدوير، لكن ما يلحظ على خالد علي مصطفى أنّ شعره لم يكن غنائيًّا بالمعنى الرومانتيكي، وإن توسل ببعض المفردات والصور التي توحي بالغنائية، فضلًا عن هيمنة الذات المعبر عنها بـ (الأنا)، لكن تبقى قصيدته قصيدة عقل وتفكر، كما يمكن القول: إنّ الشاعر لم يبارحه الخوف دلاليًّا، فقد بقيَ حبيسًا لذلك القلق الذي تلبسه، منذ أن غادر ديار الطفولة، والصبا، على الرغم من استقراره في العراق، واندماجه بالمجتمع، ودخوله المشهد الثقافي؛ بعد أن وجد نفسه في مقدمة الشعراء الذين حملوا معاول التغيير، منشدين قصيدة مغايرة على صعيد اللغة والبنية والأسلوب.