الثقافة العراقيَّة في معترك وسائل التواصل الاجتماعي

ثقافة 2021/09/02
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
كان العام 2004 فاصلا بين شكلين من أشكال الثقافة في العالم، ثقافة ما قبل الفيسبوك، وثقافة ما بعده. فقد مثلت وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، ولا سيّما الفيسبوك مرحلة مختلفة من مراحل الثقافة في العالم، فبعدما كان التواصل بين المبدعين وجمهورهم إما من خلال الكتاب الورقي، أو الصحيفة أو المجلة أو وسائل الإعلام الأخرى، انتقل هذا التواصل إلى فضاء جديد بقنوات اليوتيوب أو الفيسبوك أو تويتر، حتى اختفت الحدود بين هذين الطرفين.
وفي الوقت نفسه، لم يعد النشر الورقي، بأشكاله المختلفة، الوسيلة الوحيدة لتقديم المبدع نتاجه الجديد، بل أصبحت هذه الوسائل إحدى صناع الكتاب والفنانين، فبعضهم جمع (بوستاته) التي كان ينشرها في الفيسبوك، لتشكّل كتاباً يقدّمه للقارئ ورقياً أو إلكترونياً، وبهذا اختفت الرقابة الفنية أو الموضوعية من جانب، وتلاشت المسافات بين المبدع والمتلقي، إلى درجة أن ظهرت دراسات أكاديمية تبحث في هذه طرائق التواصل هذه سميت بـ (النص التفاعلي) هذا على نطاق النقد الأدبي، وفي البلاغة ظهرت ضمن محاور البلاغة الجديدة ما يعرف الآن بـ (بلاغة الجمهور)، وهي تعني بدراسة التفاعل وردود الفعل التي يعلنها المتلقي للنصوص الإبداعية، إن كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.
ويمكن لنا من خلال هذه التغيرات، أن نطرح تساؤلاً جديداً، وهو: ما الذي غيرته ثقافة الفيسبوك في رصانة الثقافة العراقية؟، وما الذي أنتجته هذه الثقافة الجديدة؟.
 
تجارب طارئة
يقول الشاعر كريم ناصر إن الفواصل بين الأجناس تلاشت في تجاربنا الثقافية في تطبيق الفيسبوك، واختلط الحابل بالنابل، فازدادت المسألة تعقيداً، وهذا الاعتقاد عمّق الإحساس بالإحباط بسبب استشراء الثقافة الاستهلاكية المجانية ما جعل من المثقف مريضاً سلبياً خاضعاً لإرادة ما، وليس منتجاً حقيقياً مستقلاً برأيه.
مضيفاً: نعرف أنَّ اللغة كفيلة بتطوّر كل ما هو معرفي وفني وأدبي على أساس أنَّ اللغة هي العمق الستراتيجي لأيّة ثقافة كونها الامتداد الدلالي للحضارة لأنها جوهر العلاقة الجدلية ولبّ ثقافتنا الإنسانية، وانطلاقاً من هذه الرؤية لا يمكن أن تغيّر ثقافة الفيسبوك من منظورنا شيئاً، بل أسهمت غالباً في  نشر الأدب الركيك ليصبح ظاهرةً معمّمة، وواضح أنَّ الفسيوك يبقى تطبيقاً قائماً على برنامج الكتروني مرهون بتطوّر التكنولوجيا الرقمية وإخفاقاتها، أما اللغة فهي علمٌ قائمٌ على فلسفة اللسانيات ونظريات التطوّر الإبستمولوجي والثقافة المجتمعية الرصينة. 
ولهذا نستطيع أن نقول إنَّ الثقافة موجودة كظاهرة منذ الأزل أي قبل أيّة تجربة طارئة إلا أنّ الواقع الجديد قد حال من دون تطوّرها ما أدى إلى استفحال نظرية القطيع واحتلال مثقف الهامش المركز، هناك إشكالية فاقمت من المعضلة.. فلا غرو من أنَّ تستشري ظاهرة الجيوش الإلكترونية وتصبح حلبة للمنافسة في إطار قد يولّد الرغبة في الإدمان والنرجسية والاضطرابات العقلية، هكذا تحوّل تطبيق الفيسبوك إلى منصة حرب سياسية أيديولوجية حزبية لمناهضة أنظمة أزيد من كونه منصة ثقافية تدخل في نطاق الثقافة الإنسانية.
 
هالات وهميَّة
ويرى الروائي الدكتور ميثم هاشم طاهر أن الفيسبوك أسهم بخلق جيل من المثقفين الشباب، يسيّد خطاباً أهم مهيمناته: الإحباط والتشاؤم والسخرية. مما صنع اقتضاءات غريبة وغير حقيقيّة في ذهنية الجيل المشار إليه، كأنما ثمة تلازم بين الوعي والإحباط في تناول القضايا السياسية، أو بين الوعي والتشاؤم الفكري، أو بين الوعي والسخرية الاجتماعية، أو بين الوعي والازدراء الديني. هذا الخطاب سيّد هو الآخر ذائقةً ومتلقياً “فيسبوكياً” لا يفهم المواقف الثقافية والنماذج الإنسانية إلّا من خلال تلك المهيمنات المذكورة، وأسهم الثلم الذي أصاب الهالات الوهمية للأسماء الكبيرة اللامعة في الثقافة العراقية بتسييد هذا الخطاب: إنتاجاً وتلقيّاً، فتلك الأسماء حين صار لكلّ اسم منها منصته في الفيسبوك بدت في «كثير من نماذجها» أقل من الهالات الممنوحة لها، والهامات المتطاولة نحوها في كل قضيّة فكريّة أو اجتماعية أو سياسية طالما أصيبت بالخيبة حين ترى تلك الأسماء اللامعة في المحكات الكبرى إما أن تلوذ بالصمت اتقاءً، وإما أن يكتنف خطابها ما ينخر كل هالة من قبيل التصابي أو الطائفية أو الزقاقيّة أو السطحية في التناول والطرح.
 
عنف لغوي
ومن وجهة نظر نقدية، يقول الدكتور أحمد جبار، يمكننا عد الفيسبوك نصاً ثقافياً متعدد الأصوات أتاح حرّية فائقة للبوح، وأفسح المجال لآفاق ثقافية على مستوى عالٍ من التنوّع المعرفي في صوغ رؤيتها، وتشكيل منظورها حول أي موضوع سياسي، جمالي، مما آل لبزوغ أصوات تدعي القدرة على إعمال العقل النقدي، وتقدم مساءلة لمدوّنات أدباء مشهوداً لهم بالتنوير الثقافي في المجتمع العراقي، ولو نتأمل تلك المساءلات نجدها تعلن جرأة تصل حد الوقاحة والجهل المركب، ومكمن الكارثة في الجمهور الذي يتفاعل بالإيجاب مع تلك النصوص، مما يجعل أنا كتابها تتضخم، وتزداد جرأة (وقاحة). 
وهذا ما أنتج كماً هائلا من النصوص «بوستات» تستحق الكشف عن مضمراتها السايكو ثقافية لأنها تشيع سلوكاً يجعل من العنف اللغوي نسقاً ثقافياً يصيب الكثير من المتفاعلين معه بعدوى التهجم تحت حجة خلخلة المركزيات الثقافية الراسخة.
 
خطاب شعبي
وبحسب الدكتور ستار عواد، فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لأفراد المجتمع جميعاً إبداء الرأي والمشاركة في النشر والنقد والتحليل، ومع اختلافنا عن جودة المضمون، إلا أننا أمام ظاهرة اتساع النشر والكتابة لغير النخب بعد أن كان النشر مختصراً على النخب الثقافية والأكاديميين، وبهذا نجد أن عدداً ليس قليلا من المدوّنين وكل من يمتلك صفحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن ينافس ويشارك ويقتحم المسكوت عنه في قضايا حساسة يستفيد بذلك من كثرة المتابعين والمعجبين، أدى ذلك إلى سيادة الخطاب الشعبي من خلال جمهور واسع، وضياع صوت النخب من بين الكم الهائل من الكتاب المحترفين بمختلف
 اشتغالاتهم. 
فالجمهور هنا هو من يصنع الخطاب الثقافي وهو من يصنع الكاتب بكثرة متابعيه، وهذا طبيعي مع تحوّل آليات النشر التي كانت مختصرة على الصحف والمجلات، ومن بين هذا كله لا يمكن أن تكون هناك رقابة للنشر أو محاولة للحد منه تبعاً للذائقة العامة التي أنتجها جمهور
الفيسبوك.
 
مجاملات الفيسبوك
الشاعر علي الشيال يبين أن دخول عالم السوشيال ميديا إلى جسد الثقافة العراقية سبّب إرباكاً واضحا في أحايين عدة، لاسيّما بعد أن أصبح كلّ من يكتب خاطرة (شعر- سرد) يُسمى شاعراً وسارداً ومفكراً مع وجود المجاملات في دعمه حتى بدأ يصدّق نفسه على الرغم من أنَّ وعيه المتردي وضحالة ما يكتبه وينشره من محتوى، حتى أنَّ العديد منهم طبع العديد من الكتب بوجود مطابع تجارية رخيصة ورديئة الغاية منها الربح المادي وعلى حساب المحتوى، وللكمية الهائلة للمواد الساذجة والرديئة المنشورة، تضيع على المتصفح -القارئ- العديد من المواد الرصينة التي تنشر من قبل أسماء ثقافية
 مهمة. على الرغم من ذلك، فإنَّ دخول هذه التقنية ساعدت بشكل كبير على سهولة وسرعة النشر واتساع رقعته عكس ما كان قبل شيوع هذه التقنية، بل أصبحت حفظ المواد الثقافية والبحث عنها ميسر لكل شخص، فرغم كل السلبيات، لكن هناك إيجابيات عدة ممكن للكاتب والباحث الاستفادة منها.