طعنة في خاصرة الشعر

ثقافة 2021/09/02
...

 ضياء الأسدي
 
لم أكن بعيداً عن تقصي حالة الشاعر المتفرّد سلمان داود محمد وهو يكافح بجلد لا يلين أوجاعه التي نستشعرها عن ظهر حب، فهو المقاتل الشرس الذي عبر بلغته الرشيقة ضفاف العبارات، ومنحنا نصوصاً طالما نتكئ عليها حينما تخذلنا المواقف، نصوصا نقتات بها نحن بنو الحرف، وهو يصوغها بروحه الحانقة على ما آل اليه الموقف من انحدار لا يحسد عليه.
بلاغة البوح عند سلمان داود محمد تقودنا احياناً الى فك طلاسم مبهمة، حينما ترشقنا قصائده الناعمة بأسراب من الصور العالية، وتمتمات تغفو على اشجار القصيدة الملتزمة، القصيدة التي نعرفها تنساب من بوتقة جرحه، حتى قبل أن تمهر بأسمه، فهو سادن الرقة وكاهن الحرف الذي يطهو روحه مع الوشيج الفائض من قلبه، مثل ألسنة من نار ونور. 
 سلمان داود يستشرف في جلّ قصائده مدن البلاد التي تضيع، احتجاجه الساطع، يعدّ بوصلة الى سبر اغوار الآتي من الخشية على سماحة البلاد، وريقه المعطر بسلاسة الحرف، خير من يجعلنا ندمن حب المسافة بين الجمال والمتعة، وبين هذا الكائن الذائب في نهر الملمات، الوارفة ظلاله حينما يتعمّد الشعر في أنهاره التي تشفي كل صديدنا، وتورق بساتين زهو عند تخوم
 الخذلان.
سلمان داود محمد الهادئ مثل بركة منسية، تثيره عواصف اللوعة التي يستشعرها بمجساتٍ تخصه وحده، ولكن نستكين لها جميعاً في آخر المطافات، مجسات رفيعة يلتقط فيها اوجاعنا مثل طير مهاجر، ومثل حكيم يعرف اين يضع إصبع الحرف على جراحاتنا المثخنة بالقلق والعدم. 
حينما مرض، كانت نبوءتنا أن الشعر مريض، ولا يقوى على نحت تمثال القصيدة التي يصيرها هو، على سحنته المحتجة، ولغته التي تختلط بعرق الفقراء والمعدمين، لكننا عرفناه سامقا، منتشيا بالغد، يسطر لنا ما نشتهي من الاستياء، بلغته الماهرة، العارفة، لغته التي ورثها من جلادة الأيام المحدقة بنا، وشراسة ما يحيط من وجع وحرمان، حتى خطّ في احدى لوحات احتجاجاته التي لن تنتهي “أنا حزينٌ رجاءً”.
نعرف جميعا أنك كنت تمد لسان السخرية على المرض الخبيث، الذي قاومته برجاحة روح المحارب الأمين، المقاتل الذي قضى ثلثي عمره في أتون المعارك الخاسرة، وأردية الخاكي التي مهرت جلده بغبار المعارك التي لا طائل منها.
توقعنا كلنا لأن المرض قد أخذك على حين غرّة، وتوسلنا بروحك المقاتلة أن تنجو منه، ومعك ينجو الشعر الذي حفظناه عن ظهر ورد، مددناك بحروفنا المغمسة بالأمنيات، أنك ستعبر الى ضفة النجاة، ولكن.. خذلتنا يا سلمان، ونحن الأعلم أنك اغتنمت كل فرصة للبقاء، كلنا محبطون، ونحن نطالبك أن تصدّ الألم وحدك، وتتجرّع مرارة الموت في كل ساعة وحدك، ونحن ندعوك الى الصمود والقتال… كم كنا قساة يا سلمان، ولكن هذا ديدنُ من يحب ان تكون بيننا، شعراً وروحا وقصيدة لا تؤوب، كلنا سنتذكر وشيجك حينما قلت في دمعةٍ ما:
أستودعكِ اشتعالي أيّتها العتمة 
أستودعكَ الليالي أيّها الأرق،
لا شأن لي بأطاريحكم الكحيلة
سوى أن يرى الوداع ودائعه،
ودائعه.. وهي تتعرّى دامعة
برعاية وطن مَزاد 
كل شيء فيه معرّض للبيع... 
للبيع.. 
وللرحيل.. 
وللتلف...