سوسير المحور المعرفي

ثقافة 2021/09/05
...

  محمد يونس
 
تشكل اية دراسة لعلوم اللسانيات استعدادا معرفيا يضمن للصفة المنهجية التحقق، وذلك الاستعداد لمعرفة تتطور وجهة النظر فيه بالتدريج حتى تصل الى التكامل النظري.
وتتيح الصيغ اللسانية للمعرفة الخلاقة التمدد وتجديد أطر حتى لو كانت معيارية، فالمعرفة تدرك تماما أنها ستلامس المضامين وليس الاطار المعياري، وتلك احدى المهمات في النشاط المعرفي، والتي احيانا يقابلها سوء فهم ضيق الافق، والذي يحمل فكرة خاطئة ومغلوطة في تفسيره، إذ يمثل صراحة نشاطا منهجيا جامدا، وعلى عكس الطاقات المنهجية التي لا تقف وتتطور وتتقدم نحو افاق جديدة تؤطرها بتفسير علمي يضمن لها عدم التشتت. 
إن طبيعة المنهج اللساني النظري توافقية وغير معارضة لأي تطور داخل احدى منظوماتها، والعقل العلمي الرصين هو العقل الفعل والحي، والذي يكون مستعدا بشكل ابستمولوجي بسيرورته التواصلية، ويلمس هناك ايقاعه المتنوع والمتناغم، والذي يحيل الى مسارات الفكر المنهجي المستمرة مع الحفاظ على القيمة الكبرى للثوابت. 
ولدينا فردينان دو سوسير فهو عقل نوعي تتابع مساره العلمي والمعرفي فكان محورا نوعيا في طاقة تجديد وتحديث حيوي للسانيات، وهو مؤسس اللسانيات في العصر الحديث، وسنتلمس خطابه العلمي الحيوي والرصين. مثل تاريخ اللسانيات وفروعها المختلفة كنظرة سريعة الى تاريخ علم اللغة، وهذا التاريخ مر بالكثير من المنعطفات. 
وهناك عدة عقول اهتمت بتاريخ علم اللغة، وصراحة اجد نمط الخطاب عندها ليس بذات المستوى الذي نلمسه عند سوسير، إذ هناك نمو للتذكارات التاريخية والفكر الشخصي لصيرورة وسيرورة علم اللغة، والذي يعده الغرب قد بدأ ونقل من الاغريق. 
وعُدَّ الفرنسيون والألمان هم اول من اهتم بعلم اللغة، واول من بدأ هو فردريك اوجست وولف في كتابه عن الفيلولوجيا او فقه اللغة، واستمرت الاشارات التاريخية تتوالى، ووردت اشارة الى جاكوب جريم، والذي هو مؤسس علم اللغة الالماني، وقد سبقته شخصيات من مثل جونز الانكليزي وبوب الذي نشر كتاب النظام الصرفي في اللغة- وبوت الذي درس اصول الكلمات في علم الاتمولوجيا، وكوهين الذي بحث في علم اللغة من جهة الميثولوجيا او علم الاساطير اللغوية، وكذلك ايضا كل من بنفي واوفرخت وهما قد درسا علم اللغات القديمة الهندية خصوصا، وكذلك يذكر من قاموا بدراسة علم اللغة في تواريخ مختلفة داخل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهناك نخبة من العقول من امثال ماكس مولر وكذلك جي كيرتوس وايضا اوجست شلايشر، وقد اسهم هؤلاء العقول في نشر وازدهار علم اللغة، إذ نشر ماكس مولر دراسة فضلى في عام 1861 والتي قد عنونها – دروس في علم اللغة – وقد توضح في خطاب مولر نوع من التخلي عن المسؤولية ومنطق الجهد والخلفية الاخلاقية، في حين كانت شهرة كيرتوس في كتابه عن الاتمولوجيا، الذي كان يعد من العلماء البارزين والمهمين، والذين سبقوا دور المحور السوسيري.
كان هناك نوع من التعارض والشكوك بين مدرستي علم اللغة القديمة والجديدة، إذ كل مدرسة تحمل شكوكا عدة عن المدرسة الاخرى، خصوصا مدرسة اللغة القديمة التي تعد اطار كلاسيكيا للغة، لكن تعد مدرسة علم اللغة المقارن التي كانت تعتمد على تاريخ اللغات القديمة والحديثة قد لعبت دورا مهما في تأصيل علم اللغة الحديث، واسهمت بشكل فاعل في تطور علم اللغة، ويعود لتلك المدرسة الفضل في تثبيت علوم اللغة الجديدة واسهمت بشكل ما ببناء ومد جسور التواصل بين علم اللغة والعلوم الانسانية، وهي من مهد لوجود اللسانيات الحديثة التي يعد سوسير محورها العلمي والمعرفي والفلسفي، رغم وجود ثغرة حسب التفسيرات الموضوعية لعلم اللغة المقارن، حيث النشاط العلمي اهمل البحث الموضوعي واعتمد على ركن التاريخ، وهذا ما جعل علوم اللغة قد فقدت الاسلوب الامثل للاستدلال وتحديد وجهة النظر.