سلمان داود محمد

ثقافة 2021/09/05
...

حميد المختار 
 
(وَلَد تائه في جيبه أغنية)، ظل تائهاً كما يحلو له، فالضياع له لذة شعرية غريبة لا تضاهيها لذة، في وجوده الترابي ظل الشاعر الحداثي (سلمان داود محمد) في حرائقه منذ سنوات الحصار حيث كان يجلس في مكتبهِ في الباب الشرقي يستنسخ المعارف والأفكار والقصائد والروايات ينتظر كل جديد آت من وراء الحدود، كل جديد ممنوع في عراق البعث والحصار، لا شيء مسموح هناك إلا ما يمسه سلمان بأنامله الضوئية ليحيله إلى كتاب ينتظر القراء المجازفين والمتابعين والعشاق، فسلمان هو في كل أحواله هو الغريق الذي يعكر صفو مياه الحبيبة، وهو الولد الساخر في حريقه من رجال الاطفاء، وهو الشاعر الذي تهطل روحه علينا ويمطر حباً
ليبلل أرواحنا.
رحل سلمان داود محمد كما الغيمة التي أنزلت حمولتها دمعاً وغادرت، كان شعره يهطل كالغيث الذي له رائحة الأرض المسكونة بعشقه وحياته وابداعه وصداقاته ودخانه الذي ظل ينفثه حتى آخر
رمق من عمره.
 كان باسماً دائماً ينظر إلى مهزلة الوجود ويخرج لسانه لها ساخراً، وهو يعلم أنه سيموت في يوم قريب جداً بسبب دائه العضال الذي نال من جسده، ولكنه لم ينل منه ومن عزيمته وحبه للحياة والشعر
والابداع.
سلمان حداثة الزمان وقوة المكان، كتب قصيدة النثر فأخلص لها كما لو أنه يخلص في عشق حبيبته، لا يدانيه أحد في ذلك،
وفي أشد حالات العراق ظلماً وجوعاً وتعسّفاً كان سلمان داود يعادل كل ذلك بالشعر ويكتب أعماله الشعرية الكاملة منذ (ازدهارات المفعول به) وحتى رحيله فاعلاً مرفوعاً على أكتاف الأصدقاء في مقبرة ظلت بانتظاره زمناً طويلاً... قال المعلم: “ارسم قلب الانسان/ فطبعت على راحة يدك قبلة/ وأقفلت عليها نعومة أصابعك/ المعلم الآن في ردهة الانعاش/ وأنا متهم بالتزوير”، لكنه متهم بالحداثة ومتهم بالفرادة والتحدي وعبور حواجز المستحيلات، متهم بالقصيدة الجارحة التي تخرج من بين أنامله دبيباً يُحرك حروفها باتجاه وعي آتٍ له قدرة على صنع زمن مغاير لكل الأزمنة
الرديئة.
 آخر مرة رأيته كان يجلس في مقهى رضا علوان وحيداً، سلمت عليه وجلست قبالته، كان باسماً كعادته، رحب بي وحياني ثم اندلقت مِنْ فيهِ مواضيع كثيرة معظمها عن الوطن المُستلب والشعر والرواية، سلمان يتحدث عن كل شيء له علاقة بالإبداع والعشق والعراق، لا يخشى في حب بلده وشعره لومة لائم، كيف لا!
وهو المجازف العتيد الذي كان يستنسخ الابداع كله في دفتي الكتب وفي مكتب ضيق في سعة المكان، لكنه كان واسعاً كالأفق وينثر الابداع من راحتيه إلى العالم المحترق والمحاصر بلسماً. رحل سلمان داود محمد وحده تاركاً وراءه كل شيء إلا العراق فقد
كان في قلبه.